جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٣٤
لجوزوا أن يكون هذا كلام محمد، فلعلهم ما كانوا يتحملونه منه وكانوا يؤذونه. أما لما سمعوا قوله :﴿قُلْ﴾ علموا أنه ينقل هذا التغليظ عن خالق السموات والأرض، فكانوا يتحملونه ولا يعظم تأذيهم به وخامسها : أن قوله :﴿قُلْ﴾ يوجب كونه رسولاً من عند الله، فكلما قيل له :﴿قُلْ﴾ كان ذلك كالمنشور الجديد في ثبوت رسالته، وذلك يقتضي المبالغة في تعظيم الرسول، فإن الملك إذا فوض مملكته إلى بعض عبيده، فإذا كان يكتب له كل شهر وسنة منشوراً جديداً دل ذلك على غاية اعتنائه بشأنه، وأنه على عزم أن يزيده كل يوم تعظيماً وتشريفاً وسادسها : أن الكفار لما قالوا : نعبد إلهك سنة، وتبعد آلتنا سنة، فكأنه عليه السلام قال : استأمرت إليه فبه. فقال :﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ وسابعها : الكفار قالوا فيه : السوء، فهو تعالى زجرهم عن ذلك، وأجابهم وقال :﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ﴾ وكأنه تعالى قال : حين ذكروك بسوء، فأنا كنت المجيب بنفسي، فحين ذكروني بالسوء وأثبتوا لي الشركاء، فكن أنت المجيب :﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا﴾ وثامنها : أنهم سموك أبتر، فإن شئت أن تستوفي منهم القصاص، فاذكرهم بوصف ذم بحيث تكون صادقاً فيه :﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ﴾ لكن الفرق أنهم عابوك بما ليس من فعلك وأنت تعيبهم بما هو فعلهم وتاسعها : أن بتقدير أن تقول : يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدونه، والكفار يقولون : هذا كلام ربك أم كلامك، فإن كان كلام ربك فربك يقول : أنا لا أعبد هذه الأصنام، ونحن لا نطلب هذه العبادة من ربك إنما نطلبها منك، وإن كان هذا كلامك فأنت قلت من عند نفسك إني لا أعبد هذه الأصنام، فلم قلت : إن ربك هو الذي أمرك بذلك، أما لما قال : قل، سقط هذا الاعتراض لأن قوله :﴿قُلْ﴾ يدل على أنه مأمور من عند الله تعالى بأن لا يعبدها ويتبرأ منها وعاشرها : أنه لو أنزل قوله :﴿فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ﴾ لكان يقرؤها عليهم لا محالة، لأنه لا يجوز أن يخون في الوحي إلا أنه لما قال :﴿قُلْ﴾ كان ذلك كالتأكيد في إيجاب تبليغ هذا الوحي إليهم، والتأكيد يدل على أن ذلك الأمر أمر عظيم. فبهذا الطريق تدل هذه الكلمة على أن الذي قالوه وطلبوه من الرسول أمر منكر في غاية القبح ونهاية الفحش الحادي عشر : كأنه تعالى يقول كانت التقية جائزة عند الخوف، أما الآن لما قوينا قلبك بقولنا :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٣٤
﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ وبقولنا :﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ﴾ فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم و: ﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ الثاني عشر : أن خطاب الله تعالى مع العبد من غير واسطة يوجب التعظيم ألا ترى أنه تعالى ذكر من أقسام إهانة الكفار، إنه تعالى لا يكلمهم، فلو قال :﴿فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ﴾ لكان ذلك من حيث أنه خطاب مشافهة يوجب التعظيم، ومن حيث أنه وصف لهم بالكفر يوجب الإيذاء فينجبر الإيذاء بالإكرام، أما لما قال :﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ﴾ فحينئذ يرجع تشريف / المخاطبة إلى محمد صلى الله عليه وسلّم، وترجع الإهانة الحاصلة لهم بسبب وصفهم بالكفر إلى الكفار، فيحصل فيه تعظيم الأولياء، وإهانة الأعداء، وذلك هو النهاية في الحسن الثالث عشر : أن محمداً عليه السلام كان منهم، وكان في غاية الشفقة عليهم والرأفة بهم، وكانوا يعلمون منه أنه شديد الاحتراز عن الكذب، والأب الذي يكون في غاية الشفقة بولده، ويكون في نهاية الصدق والبعد عن الكذب ثم إنه يصف ولده بعيب عظيم فالولد إن كان عاقلاً يعلم أنه ما وصفه بذلك مع غاية شفقته عليه إلا لصدقه في ذلك ولأنه بلغ مبلغاً لا يقدر على إخفائه، فقال تعالى :﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم :﴿ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ﴾ ليعلموا أنك لما وصفتهم بذلك مع غاية شفقتك عليهم وغاية احترازك عن الكذب فهو موصوفون بهذه الصفة القبيحة، فربما يصير ذلك داعياً لهم إلى البراءة من هذه الصفة والاحتراز عنها الرابع عشر : أن الإيذاء والايحاش من ذوي القربى أشد وأصعب من الغير فأنت من قبيلتهم، ونشأت فيما بين أظهرهم فقل لهم :﴿فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ﴾ فلعله يصعب ذلك الكلام عليهم، فيصير ذلك داعياً لهم إلى البحث والنظر والبراءة عن الكفر الخامس عشر : كأنه تعالى يقول : ألسنا بينا في سورة :﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ وفي سورة الكوثر :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ وأتيت بالإيمان والأعمال الصالحات، بمقتضى قولنا :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٣٤