المسألة الثانية : في الآية سؤال وهو أن كلمة :﴿مَآ﴾ لا تتناول من يعلم فهب أن معبودهم كان كذلك فصح التعبير عنه بلفظ ما لكن معبود محمد عليه الصلاة والسلام هو أعلم العالمين فكيف قال :﴿وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ أجابوا عنه من وجوه أحدها : أن المراد منه الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل وأنتم لا تعبدون الحق وثانيها : أن مصدرية في الجملتين كأنه قال : لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في المسقبل، ثم قال : ثانياً لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في الحال وثالثها : أن يكون ما بمعنى الذي وحينئذ يصح الكلام ورابعها : أنه لما قال أولاً :﴿لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ حمل الثاني عليه ليتسق الكلام كقوله :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٣٩
المسألة الثالثة : احتج أهل الجبر بأنه تعالى أخبر عنهم مرتين بقوله :﴿وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ والخبر الصدق عن عدم الشيء يضاد وجود ذلك الشي فالتكليف بتحصيل العبادة مع وجود الخبر الصدق بعدم العبادة تكليف بالجمع بين الضدين، واعلم أنه بقي في الآية سؤالات :
السؤال الأول : أليس أن ذكر الوجه الذي لأجله تقبح عبادة غير الله كان أولى من هذا التكرير ؟
الجواب بل قد يكون التأكيد والتكرير أولى من ذكر الحجة، إما لأن المخاطب بليد ينتفع بالمبالغة والتكرير ولا ينتفع بذكر الحجة أو لأجل أن محل النزاع يكون في غاية الظهور فالمناظرة في مسألة الجبر والقدر حسنة، أما القائل : بالصنم فهو إما مجنون يجب شده أو عاقل معاند فيجب قتله، وإن لم يقدر على قتله فيجب شتمه، والمبالغة في الأنكار عليه كما في هذه الآية.
السؤال الثاني : أن أول السورة اشتمل على التشديد، وهو النداء بالكفر والتكرير وآخرها على اللطف والتساهل، وهو قوله :﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ﴾ فكيف وجه الجمع بين الأمرين ؟
الجواب : كأنه يقول : إني قد بالغت في تحذيركم على هذا الأمر القبيح، وما قصرت فيه، فإن لم تقبلوا قولي، فاتركوني سواء بسواء.
السؤال الثالث : لما كان التكرار لأجل التأكيد والمبالغة فكان ينبغي أن يقول : لن أعبد ما تعبدون، لأن هذا أبلغ، ألا ترى أن أصحاب الكهف لما بالغوا قالوا :﴿لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِه إِلَاهًا ﴾ والجواب : المبالغة إنما يحتاج إليها في موضع التهمة، وقد علم كل أحد من محمد عليه السلام أنه ما كان يعبد الصنم قبل الشرع، فكيف يعبده بعد ظهور الشرع، بخلاف أصحاب الكهف فإنه وجد منهم ذلك فيما قبل.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٣٩
٣٤١
أما قوله تعالى :﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص له، فإن قيل : فهل يقال : إنه أذن لهم في الكفر قلنا : كلا فإنه عليه السلام ما بعث إلا للمنع من الكفر فكيف يأذن فيه، ولكن المقصود منه أحد أمور أحدها : أن المقصود منه التهديد، كقوله اعملوا ما شئتم وثانيها : كأنه يقول : إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فاتركوني ولا تدعوني إلى الشرك وثالثها :﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ فكونوا عليه إن كان الهلاك خيراً لكم ﴿وَلِىَ دِينِ﴾ لأني لا أرفضه القول الثاني : في تفسير الآية أن الدين هو الحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر البتة القول الثالث : أن يكون على تقدير حذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبهم جزاء دينهم وبالاً وعقاباً كما حسبك جزاء دينك تعظيماً وثواباً القول الرابع : الدين العقوبة :﴿وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِا وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآا ِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ القول الخامس : الدين الدعاء، فادعو الله مخلصين له الدين، أي لكم دعاؤكم ﴿وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِى ضَلَالٍ﴾ ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ﴾ ثم ليتها تبقى على هذه الحالة فلا يضرونكم، بل يوم القيامة يجدون لساناً فيكفرون بشرككم، وأما ربي فيقول :﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ ﴿ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ القول السادس : الدين العادة، قال الشاعر :
يقول لها وقد دارت وضيني
أهذا دينها أبدأ وديني معناه لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشياطين، ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي، ثم يبقى كل واحد منا على عادته، حتى تلقوا الشياطين والنار، وألقى الملائكة والجنة.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٤١
المسألة الثانية : قوله :﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ يفيد الحصر، ومعناه لكم دينكم لا لغيركم، ولي ديني لا لغيري، وهو إشارة إلى قوله :﴿وَأَن لَّيْسَ لِلانسَانِ إِلا مَا سَعَى ﴾ أي أنا مأمور بالوحي والتبليغ، وأنتم مأمورون بالامتثال والقبول، فأنا لمافعلت ما كلفت به خرجت من عهدة التكليف، وأماإصراركم على كفركم، فذلك ممالا يرجع إلي منه ضرر البتة.
المسألة الثانية : جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة، وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على سيدنا، وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٤١
٣٤٨


الصفحة التالية
Icon