السؤال الرابع : وصف النصر بالمجيء مجاز وحقيقته إذا وقع نصر الله فما الفائدة في ترك الحقيقة وذكر المجاز ؟
الجواب فيه إشارات : إحداها : أن الأمور مربوطة بأوقاتها وأنه سبحانه قدر لحدوث كل حادث أسباباً معينة وأوقاتاً مقدرة يستحيل فيها التقدم والتأخر والتغير والتبدل فإذا حضر ذلك الوقت وجاء ذلك الزمان حضر معه ذلك الأثر وإليه الإشارة بقوله :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾، وثانيها : أن اللفظ دل على أن النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عليه وسلّم، وذلك لأن ذلك النصر كان مستحقاً له بحكم الوعد فالمقتضى كان موجوداً إلا أن تخلف الأثر كان لفقدان الشرط فكان كالثقيل المعلق فإن ثقله يوجب الهوى إلا أن العلاقة مانعة فالثقيل يكون كالمشتاق إلى الهوى، فكذا ههنا النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عليه وسلّم وثالثها : أن عالم العدم عالم لا نهاية له وهو عالم الظلمات إلا أن في قعرها ينبوع الجود والرحمة وهو ينبوع جود الله وإيجاده، ثم انشعبت بحار الجود والأنوار وأخذت في السيلان، وسيلانها يقتضي في كل حين وصولها إلى موضع ومكان معين فبحار رحمة الله ونصرته كانت آخذة في السيلان من الأزل فكأنه قيل : يا محمد قرب وصولها إليك ومجيئها إليك فإذا جاءتك أمواج هذا البحر فاشتغل بالتسبيح والتحميد والاستغفار فهذه الثلاثة هي السفينة التي لا يمكن الخلاص من بحار الربوبية إلا بها، ولهذا السبب لما ركب أبوك نوح بحر القهر والكبرياء استعان بقوله :﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ ﴾.
السؤال الخامس : لا شك أن الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على فتح مكة هم الصحابة من المهاجرين والأنصار، ثم إنه سمي نصرتهم لرسول الله :﴿نَصْرُ اللَّهِ﴾ فما السبب في أن صار الفعل الصادر عنهم مضافاً إلى الله ؟
الجواب : هذا بحر يتفجر منه بحر سر القضاء والقدر، وذلك لأن فعلهم فعل الله، وتقريره أن أفعالهم مسندة إلى ما في قلوبهم من الدواعي والصوارف، وتلك الدواعي والصوارف أمور حادثة فلا بد لها من محدث وليس هو العبد، وإلا لزم التسلسل، فلا بد وأن يكون الله تعالى، فيكون المبدأ الأول والمؤثر الأبعد هو الله تعالى، ويكون المبدأ الأقرب هو العبد. فمن هذا الاعتبار صارت النصرة المضافة إلى الصحابة بعينها مضافة إلى الله تعالى، فإن قيل : فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد مفرعاً على فعل الله تعالى، وهذا يخالف النصر، لأنه قال :﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ فجعل نصرنا له مقدماً على نصره لنا والجواب : أنه لا امتناع في أن يصدر عن الحق فعل، فيصير ذلك سبباً لصدور فعل عنا، ثم الفعل عنا ينساق إلى فعل آخر يصدر عن الرب، فإن أسباب الحوادث ومسبباتها متسلسلة على ترتيب عجيب يعجز عنإدراك كيفيته أكثر العقول البشرية.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٤٩
السؤال السادس : كلمة :﴿إِذَا﴾ للمستقبل، فههنا لما ذكر وعداً مستقبلاً بالنصر، قال :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ فذكر ذاته باسم الله، ولما ذكر النصر الماضي حين قال :﴿وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ﴾ فذكره بلفظ الرب، فما السبب في ذلك ؟
الجواب : لأنه تعالى بعد وجود الفعل صار رباً، وقبله ما كان رباً لكن كان إلهاً.
السؤال السابع : أنه تعالى قال :﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ وإن محمداً عليه السلام نصر الله حين قال :﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ فكان واجباً بحكم هذا الوعد أن ينصره الله، فلا جرم قال :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ فهل تقول بأن هذا النصر كان واجباً عليه ؟
الجواب : أن ما ليس بواجب قد يصير واجباً بالوعد، ولهذا قيل : وعد الكريم ألزم من دين الغريم، كيف ويجب على الوالد نصرة ولده، وعلى المولى نصرة عبده، بل يجب النصر على الأجنبي إذا تعين بأن كان واحداً اتفاقاً، وإن كان مشغولاً بصلاة نفسه، ثم اجتمعت هذه الأسباب في حقه تعالى فوعده مع الكرم وهو أرأف بعبده من الوالد بولده والمولى بعبده وهو ولي بحسب الملك ومولى بحسب السلطنة، وقيوم للتدبير وواحد فرد لا ثاني له فوجب عليه وجوب الكرم نصرة عبده، فلهذا قال :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾.
أما قوله تعالى :﴿وَالْفَتْحُ﴾ ففيه مسائل :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٤٩


الصفحة التالية
Icon