المسألة الثالثة : قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمون : إن إيمان المقلد صحيح، واحتجوا بهذه الآية، قالوا : إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على محمد عليه السلام، ولو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا عالمين حدوث الأجساد بالدليل ولا إثبات كونه تعالى منزهاً عن الجسمية والمكان والحيز ولا إثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولا إثبات قيام المعجز التام على يد محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا إثبات أن قيام المعجز كيف يدل على الصدق والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري، فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح، ولا يقال : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة، بل إنما كانوا جاهلين بالتفاصيل إلا أنه ليس من شرط كون الإنسان مستدلاً كونه عالماً بهذه التفاصيل، لأنا نقول : ءن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان، فإن الدليل إذا كان مثلاً مركباً من عشر مقدمات، فمن علم تسعة / منها، وكان في المقدمة العاشرة مقلداً كان في النتيجة مقلداً لا محالة لأن فرع التقليد أولى أن يكون تقليداً وإن كان عالماً بمجموع تلك المقدمات العشرة استحال كون غيره أعرف منه بذلك الدليل/ لأن تلك الزيادة إن كانت جزأً معتبراً في دلالة هذا الدليل لم تكن المقدمات العشرة الأولى تمام الدليل، فإنه لا بد معها من هذه المقدمة الزائدة، وقد كنا فرضنا تلك العشرة كافية، وإن لم تكن الزيادة معتبرة في دلالة ذلك الدليل كان ذلك أمراً منفصلاً عن ذلك الدليل غير معتبر في كونه دليلاً على ذلك المدلول، فثبت أن العلم بكون الدليل دليلاً لا يقبل الزيادة والنقصان، فأما أن يقال : إن أولئك الأعراب كانوا عالمين بجميع مقدمات دلائل هذه المسائل بحيث ما شذ عنهم من تلك المقدمات واحدة، وذلك مكابرة أو ما كانوا كذلك. فحينئذ ثبت أنهم كانوا مقلدين، ومما يؤكذ ما ذكرنا ما روى عن الحسن أنه قال : لما فتح رسول الله مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : إذا ظفر بأهل الحرم وجب أن يكون على الحق، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، وكل من أرادهم بسوء ثم أخذوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال، هذا ما رواه الحسن، ومعلوم أن الاستدلال بأنه لما ظفر بأهل مكة وجب أن يكون على الحق ليس بجيد، فعلمنا أنهم ما كانوا مستدلين بل مقلدين.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٥١
المسألة الرابعة : دين الله هو الإسلام لقوله تعالى :﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ ﴾ ولقوله :﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ وللدين أسماء أخرى، منها الإيمان قال الله تعالى :﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ومنها الصراط قال تعالى :﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ ﴾ ومنها كلمة الله، ومنها النور :﴿لِيُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ﴾ ومنها الهدي لقوله :﴿يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُ﴾ ومنها العروة :﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ ومنها الحبل :﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ ومنها صبغة الله، وفطرة الله، وإنما قال :﴿فِى دِينِ اللَّهِ﴾ ولم يقل : في دين الرب، ولا سائر الأسماء لوجهين الأول : أن هذا الاسم أعظم الأسماء لدلالته على الذات والصفات، فكأنه يقول : هذا الدين إن لم يكن له خصلة سوى أنه دين الله فإنه يكون واجب القبول والثاني : لو قال : دين الرب لكان يشعر ذلك بأن هذا الدين إنما يجب عليك قبوله لأنه رباك، وأحسن إليك وحينئذ تكن طاعتك له معللة بطلب النفع، فلا يكون الإخلاص حاصلاً، فكأنه يقول أخلص الخدمة بمجرد أني إله لا لنفع يعود إليك.
المسألة الخامسة : الفوج : الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً وإثنين إثنين، وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم فقيل له : ما يبكيك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول :"دخل الناس في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً" نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٥١
٣٥٢
قوله تعالى :﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه إِنَّه كَانَ تَوَّابَا ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار، ولهذا الترتيب فوائد :


الصفحة التالية
Icon