المسألة الثامنة : في الآية سؤالات أحدها : وهو أنه قال :﴿إِنَّه كَانَ تَوَّابَا ﴾ على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وثانيها : هلا قال : غفاراً كما قاله : في سورة نوح وثالثها : أنه قال :﴿نَصْرُ اللَّهِ﴾ وقال :﴿فِى دِينِ اللَّهِ﴾ فلم لم يقل : بحمد الله بل قال :﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ والجواب : عن الأول من وجوه أحدها : أن هذا أبلغ كأنه يقول : ألست أثنيت عليكم بأنكم :﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ثم من كان دونكم كنت أقبل توبتهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة، وفلق البحر ونتق الجبل، ونزول المن والسلوى عصوا ربهم. وأتوا بالقبائح، فلما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلاً للتوبة ممن دونكم أفلا أقبلها منكم وثانيها : منذ كثير كنت شرعت في قبول توبة العصاة والشروع ملزم على قبول النعمان فكيف في كرم الرحمن وثالثها : كنت تواباً قبل أن آمركم بالاستغفار أفلا أقبل وقد أمرتكم بالاستغفار ورابعها : كأنه إشارة إلى تخفيف جنايتهم أي لستم بأول من جنى وتاب بل هو حرفتي، والجناية مصيبة للجاني والمصيبة إذا عمدت خفت وخامسها : كأنه نظير ما يقال :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٥٢
لقد أحسن الله فيما مضى
كذلك يحسن فيما بقي والجواب : عن السؤال الثاني من وجوه أحدها : لعله خص هذه الأمة بزيادة شرف لأنه لا يقال في صفات العبد غفار، ويقال : تواب إذا كان آتياً بالتوبة، فيقول تعالى : كنت لي سمياً من أول الأمر أنت مؤمن، وأنا مؤمن، وإن كان المعنى مختلفاً فتب حتى تصير سمياً لي آخر الأمر، فأنت تواب، وأنا تواب، ثم إن التواب في حق الله، هو أنه تعالى يقبل التوبة كثيراً فنبه على أنه يجب على العبد أن يكون إتيانه كثيراً وثانيها : إنما قيل : تواباً لأن القائل قد يقول : أستغفر ا وليس بتائب، ومنه قوله :"المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزىء بربه" إن قيل : فقد يقول : أتوب، وليس بتائب، قلنا : فإذاً يكون كاذباً، لأن التوبة اسم للرجوع والندم، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذباً فيه، فصار تقدير الكلام، واستغفره بالتوبة، وفيه تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار، وكذا خواتيم الأعمال، وروى أنه لم يجلس مجلساً إلا ختمه بالاستغفار والجواب : عن السؤال الثالث أنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرتين وذكر اسم الفعل مرتين أحدهما : الرب والثاني : التواب، ولما كانت التربية تحصل أولاً والتوابية آخراً، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً واسم التواب آخراً.
المسألة التاسعة : الصحابة اتفقوا على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم روى أن العباس عرف ذلك وبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ما يبكيك فقال : نعيت إليك نفسك فقال : الأمر كما تقول، وقيل : إن ابن عباس هو الذي قال ذلك فقال عليه الصلاة والسلام :"لقد أوتي هذا الغلام علماً كثيراً" روى أن عمر كان يعظم ابن عباس ويقربه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبدالرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا، وفي أبنائنا من هو مثله ؟
فقال : لأنه ممن قد علمتم قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله :﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ وكأنه ما سألهم إلا من أجلي فقال بعضهم : أمر الله نبيه إذا فتح أن يستغفره ويتوب إليه، فقلت : ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال : كيف تلومونني عليه بعدما ترون، وروى أنه لما نزلت هذه السورة خطب وقال :"إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه والآخرة فاختار لقاء الله" فقال السائل : وكيف دلت هذه السورة على هذا المعنى ؟
الجواب : من وجوه أحدها : قال بعضهم : إنما عرفوا ذلك لما روينا أن الرسول خطب عقيب السورة وذكر التخيير وثانيها : أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكال والتمام، وذلك يعقبه الزوال كما قيل :
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٥٢
إذا تم شيء دنا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم وثالثها : أنه أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً واشتغاله به يمنعه عن الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك لكان كالمعزول عن الرسالة وأنه غير جائز ورابعها : قوله :﴿وَاسْتَغْفِرْه ﴾ تنبيه على قرب الأجل كأنه يقول قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر، ونبهه به على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله أن يستكثر من التوبة وخامسها : كأنه قيل له : كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته، وهو النصر والفتح والاستيلاء، والله تعالى وعدك بقوله :﴿وَالاخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادات العالية.
المسألة العاشرة : ذكرناأن الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة. وأما الذين قالوا : إنها نزلت بعد فتح مكة، فذكر الماوردي أنه عليه السلام لم يلبث بعد نزول هذه السورة إلا ستين يوماً مستديماً للتسبيح والاستغفار، وقال مقاتل : عاش بعدها حولاً ونزل :﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ فعاش بعده ثمانين يوماً ثم نزل آية الكلالة، فعاش بعدها همسين يوماً، ثم نزل :﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ثم نزل :﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه ﴾ فعاش بعدها أحد عشر يوماً وفي رواية أخرى عاش بعدها سبعة أيام، والله أعلم كيف كان ذلك.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٥٢
٣٥٣


الصفحة التالية
Icon