قوله تعالى :﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ﴾ اعلم أن قوله :﴿تَبَّتْ﴾ فيه أقاويل أحدها : التباب الهلاك، ومنه قولهم شابة أم تابة أي هالكة من الهرم، ونظيره قوله تعالى :﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ﴾ أي في هلاك، والذي يقرر ذلك ن الأعرابي لما واقع أهله في نهار رمضان قال : هلكت وأهلكت، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر ذلك، فدل على أنه كان صادقاً في ذلك، ولا شك أن العمل إما أن يكون داخلاً في الإيمان، أو إن كان داخلاً لكنه أضعف أجزائه، فإذا كان بترك العمل حصل الهلاك، ففي حق أبي لهب حصل ترك الاعتقاد والقول والعمل، وحصل وجود الاعتقاد الباطل، والقول الباطل، والعمل الباطل، فكيف يعقل أن لا يحصل معنى الهلاك، فلهذا قال :﴿تَبَّتْ﴾ وثانيها : تبت خسرت، والتياب هو الخسران المفضي إلى الهلاك، ومنه قوله تعالى :﴿وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ أي تخسير بدليل أنه قال في موضع آخر : غير تخسير وثالثها : تبت خابت، قال ابن عباس : لأنه كان يدفع القوم عنه بقوله : إنه ساحر، فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهماً فلم يقبل قوله في الرسول بعد ذلك، فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه، ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه، فيقول : انصرف راشداً فإنه مجنون، فإن المعتاد أن من يصرف إنساناً عن موضع وضع يده علي كتفه ودفعه عن ذلك الموضع ورابعها : عن عطاء تبت أي غلبت لأنه كان يعتقد أن يده هي العليا وأنه يخرجه من مكة ويذله ويغلب عليه وخامسها : عن ابن وثاب ؛ صفرت يداه على كل خير، وإن قيل : ما فائدة ذكر اليد ؟
قلنا : فيه وجوه أحدها : ما يرى أنه أخذ حجراً ليرمي به رسول الله، روى عن طارق المحاربي أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في السوق يقول : يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه، / لا تطيعوه فإنه كذاب، فقلت : من هذا، فقالوا : محمد وعمه أبو لهب وثانيها : المراد من اليدين الجملة كقوله تعالى :﴿ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٥٥
ومنه قولهم : يداك أو كتا، وقوله تعالى :﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ﴾ وهذا التأويل متأكد بقوله :﴿وَتَبَّ﴾ وثالثها : تبت يداه أي دينه ودنياه أولاه وعقباه، أو لأن بأحدى اليدين تجر المنفعة، وباوخرى تدفع المضرة، أو لأن اليمنى سلاح والأخرى جنة ورابعها : روى أنه عليه السلام لما دعاه نهاراً فأبى، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستناً بسنة نوح ليدعوه ليلاً كما دعاه نهاراً، فلما دخل عليه قال له : جئتني معتذراً فجلس النبي عليه السلام أمامه كالمحتاج، وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال : إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت، فقال : لا أومن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي، فقال عليه الصلاة والسلام للجدي : من أنا ؟
فقال رسول الله : وأطلق لسانه يثني عليه، فاستولى الحسد على أبي لهب، فأخذ يدي الجدي ومزقه وقال : تباً لك أثر فيك السحر، فقال الجدي : بل تباً لك، فنزلت السورة على وفق ذلك :﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ﴾ لتمزيقه يدي الجدي وخامسها : قال محمد بن إسحق : يروى أن أبا لهب كان يقول : يعدني محمد أشياء، لا أرى أنها كائنة يزعم أنها بعد الموت، فلم يضع في يدي من ذلك شيئاً، ثم ينفخ في يديه ويقول : تباً لكما ما آرى فيكما شيئاً، فنزلت السورة.