المسألة السادس : اعلم أن قوله :﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ألفاظ ثلاثة وكل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات الطالبين فالمقام الأول : مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين إلى الله وهؤلاء هم الذين نظروا إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي هي، فلا جرم ما رأوا موجوداً سوى الله لأن الحق هو الذي لذاته يجب وجوده، وأما ما عداه فممكن لذاته والممكن لذاته إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوماً، فهؤلاء لم يروا موجوداً سوى الحق سبحانه، وقوله :﴿هُوَ﴾ إشارة مطلقة والإشارة وإن كانت مطلقة إلا أن المشار إليه لما كان معيناً انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين، فلا جرم كان قولنا : هو إشارة من هؤلاء المقربين إلى الحق سبحانه فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز، لأن الافتقار إلى المميز إنما يحصل حين حصل هناك موجودان، وقد بينا أن هؤلاء ما شاهدوا بعيون عقولهم إلا الواحد فقط، فلهذا السبب كانت لفظة :﴿هُوَ﴾ كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء، المقام الثاني : وهو مقام أصحاب اليمين وهو دون المقام الأول، وذلك لأن هؤلاء شاهدوا الحق موجوداً وشاهدوا الخلق أيضاً موجوداً، فحصلت كثرة في الموجودات فلا جرم لم يكن هو كافياً في الإشارة إلى الحق، بل لا بد هناك من مميز به يتميز الحق عن الخلق : فهؤلاء احتاجوا إلى أن يقرنوا لفظة هو، فقيل : لأجلهم هو / الله، لأن الله هو الموجود الذي يفتقر إليه ما عداه، ويستغني هو عن كل ما عداه والمقام الثالث : وهو مقام أصحاب الشمال وهو أخس المقامات وأدونها، وهم الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد وأن يكون الإله أكثر من واحد فقرن لفظ الأحد بما تقدم رداً على هؤلاء وإبطال لمقالاتهم فقيل :﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٦٩
وههنا بحث آخر : أشرف وأعلى مما ذكرناه وهو أن صفات الله تعالى إما أن تكون إضافية وإما أن تكون سلبية، أما الإضافية فكقولنا : عالم، قادر مربد خلاق، وأما السلبية فكقولنا : ليس بجسم ولا بجوهر ولا بعرض والمخلوقات تدل أولا على النوع الأول من الصفات وثانياً على النوع الثاني منها، وقولنا : الله يدل على مجامع الصفات الإضافية، وقولنا : أحد يدل على مجامع الصفات السلبية، فكان قولنا :﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تاماً في إفادة العرفان الذي يليق بالعقول البشرية/ وإنما قلنا : إن لفظ الله يدل على مجامع الصفات الإضافية، وذلك لأن الله هو الذي يستحق العبادة، واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يكون مستبداً بالإيجاد والإبداع والاستبداد بالإيجاد لا يحصل إلا لمن كان موصوفاً بالقدرة التامة والإرادة النافذة والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وهذه مجامع الصفات الإضافة، وأما مجامع الصفات السلبية فهي الأحدية، وذلك لأن المراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التركيب، وذلك لأن كل ماهية مركبة فه مفتقرة إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، فكل مركب فهو ممكن لذاته، فالإله الذي هو مبدأ لجميع الكائنات ممتنع أن يكون ممكناً، فهو في نفسه فرد أحد وإذا ثبتت الأحدية، وجب أن لا يكون متحيزاً لأن كل متحيز فإن يمينه مغاير ليساره، وكل ما كان كذلك فهو منقسم، فالأحد يستحيل أن يكون متحيزاً، وإذا لم يكن متحيزاً لم يكن في شيء من الأحياز والجهاد ويجب أن لا يكون حالاً في شيء، لأنه مع محله لا يكون أحداً، ولا يكون محلاً لشيء، لأنه مع حاله لا يكون أحداً، وإذا لم يكن حالاف ولا محلاً لم يكن متغيراً البتة لأن التغير لا بد وأن يكون من صفة إلى صفة، وأيضاً إذا كان أحداً وجب أن يكون واحداً إذ لو فرض موجودان واجباً الوجود لاشتركا في الوجوب ولتمايزا في التعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة فكل واحد منهما مركب، فثبت أن كونه أحداً يستلزم كونه واحداً فإن قيل : كيف يعقل كون الشيء أحداً، فإن كل حقيقة توصف بالأحدية فهناك تلك الحقيقة من تلك الأحدية ومجموعهما فذاك ثالث ثلاث لا أحد الجواب : أن الأحدية لازمة لتلك الحقيقة فالمحكوم عليه بالأحدية هو تلك الحقيقة لا المجموع الحاصل منها ومن تلك الأحدية، فقد لاح بما ذكرنا أن قوله :﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾ كلام متضمن لجميع صفات الله تعالى من الإضافيات والسلوب وتمام الكلام في هذا الباب مذكور في تفسير قوله :﴿وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ ﴾.
جزء : ٣٢ رقم الصفحة : ٣٦٩
٣٦٩
قوله تعالى :﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير :﴿الصَّمَدُ﴾ وجهين الأول : أنه فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج، قال الشاعر :
ألا بكر الناعي بخير بني أسد
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقال أيضاً :
علوته بحسامي ثم قلت له
خذها حذيف فأنت السيد الصمد


الصفحة التالية
Icon