﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ﴾ يدل على أنه تعالى يغفر كل هذه الثلاثة، ثم قوله :﴿لِمَن يَشَآءُ ﴾ يدل على أنه تعالى يغفر كل تلك الأشياء لا للكل بل للبعض. وهذا الوجه هو اللائق بأصولنا، فإن قيل : لا نسلم أن المغفرة تدل على أنه تعالى لا يعذب العصاة في الآخرة بيانه أن المغفرة إسقاط العقاب وإسقاط العقاب أعم من إسقاط العقاب دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزاء القدر المشترك لا إشعار له بكل واحد من ذينك القيدين، فإذن لفظ المغفرة لا دلالة فيه على الإسقاط الدائم. إذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك عن الدنيا ويؤخر عقوبة ما دون الشرك عن الدنيا لمن يشاء، لا يقال : كيف يصح هذا ونحن لا نرى مزيداً للكفار في عقاب الدنيا على المؤمنين لأنا نقول : تقدير الآية أن الله لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ويؤخر عقاب ما دون الشرك في الدنيا لمن يشاء فحصل بذلك تخويف كلا الفريقين بتعجيل العقاب للكفار والفساق لتجويز كل واحد من هؤلاء أن يعجل عقابه، وإن كان لا يفعل ذلك بكثير منهم. سلمنا أن الغفران عبارة عن الإسقاط على سبيل الدوام فلم قلتم إنه لا يمكن حمله على مغفرة التائب ومغفرة صاحب الصغيرة ؟
أما الوجوه الثلاثة الأول : فهي مبنية على أصول لا يقولون بها وهي وجوب مغفرة صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة، وأما الوجه الرابع : فلا نسلم أن قوله :﴿مَا دُونَ ذَالِكَ﴾ يفيد العموم، والدليل عليه أنه يصح إدخال لفظ "كل" و"بعض" على البدل عليه مثل أن يقال : ويغفر كل ما دون ذلك. ويغفر بعض ما دون ذلك ولو كان قوله :﴿مَا دُونَ ذَالِكَ﴾ يفيد العموم لما صح ذلك، سلمنا أنه للعموم ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة، وذلك لأن الآيات الواردة في الوعيد كل واحد منها مختص بنوع واحد من الكبائر مثل القتل والزنا، وهذه الآية متناولة لجميع المعاصي والخاص مقدم على العام، فآيات الوعيد يجب أن تكون مقدمة على هذه الآية. والجواب عن الأول : أنا إذا حملنا المغفرة على تأخير العقاب وجب بحكم الآية أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر من عقاب المؤمنين وإلا لم يكن في هذا التفصيل فائدة، ومعلوم أنه ليس كذلك بدليل قوله تعالى :﴿وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ﴾ (النساء : ٤٨، ١١٦) الآية. قوله : لم قلتم إن قوله :﴿مَا دُونَ ذَالِكَ﴾ يفيد العموم ؟
قلنا : لأن قوله :"ما" تفيد الإشارة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك، وهذه الماهية ماهية واحدة، وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها، ففي كل صورة تتحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران، فثبت أنه للعموم ولأنه يصح استثناء أي معصية كانت منها وعند الوعيدية صحة الاستثناء تدل على العموم، أما قوله : آيات الوعيد أخص من هذه الآية، قلنا : لكن هذه الآية أخص منها لأنها تفيد العفو عن البعض دون البعض / وما ذكرتموه يفيد الوعيد للكل، ولأن ترجيح آيات العفو أولى لكثرة ما جاء في القرآن والأخبار من الترغيب في العفو.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨
الحجة الخامسة : أن نتمسك بعمومات الوعد وهي كثيرة في القرآن، ثم نقول : لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح أو من التوفيق، والترجيح معناه من وجوه. أحدها : أن عمومات الوعد أكثر والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع، وقد دللنا على صحته في أصول الفقه، وثانيها : أن قوله تعالى :﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّاَاتِ ﴾ (هود : ١١٤) يدل على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة على ما ثبت في أصول الفقه، فوجب بحكم هذا الإيماء أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة ترك العمل به في حق الحسنات الصادرة من الكفار، فإنها لا تذهب سيئاتهم فيبقى معمولاً به في الباقي. وثالثها : قوله تعالى :﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا﴾ (الأنعام : ١٦٥)، ثم إنه تعالى زاد على العشرة فقال :﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ مِّا ئَةُ حَبَّةٍ ﴾ ثم زاد عليه فقال :﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ (البقرة : ٢٦١) وأما في جانب السيئة فقال :﴿وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا﴾، وهذا في غاية الدلالة على أن جانب الحسنة راجع عند الله تعالى على جانب السيئة. ورابعها : أنه تعالى قال في آية الوعد في سورة النساء :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ﴾ فقوله :﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ﴾ (النساء : ١٢٢) إنما ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقاً.