المسألة الثانية : يقال : لم خوطبوا بقولوا بعد الإخبار ؟
والجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه على طريقة الالتفات كقوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ (يونس : ٢٢). وثانيها : فيه حذف أي قلنا لهم قولوا. وثالثها : الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل : قلت لا تعبدوا وقولوا.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن المخاطب بقوله :﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ من هو ؟
فيحتمل أن يقال : إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله وعلى أن يقولوا للناس حسناً ويحتمل أن يقال : إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله ثم قال لموسى وأمته : قولوا للناس حسناً والكل ممكن بحسب اللفظ وإن كان الأول أقرب حتى تكون القصة قصة واحدة مشتملة على محاسن العادات ومكارم الأخلاق من كل الوجوه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨
المسألة الرابعة : منهم من قال : إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين، أما مع الكفار والفساق فلا، والدليل عليه وجهان، الأول : أنه يجب لعنهم وذمهم والمحاربة معهم، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً، والثاني : قوله تعالى :﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَن ظُلِمَ ﴾ (النساء : ١٤٨) فأباح الجهر بالسوء لمن ظلم، ثم إن القائلين بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القتال، ومنهم من قال : إنه دخله التخصيص، وعلى هذا التقدير يحصل ههنا احتمالان، أحدهما : أن يكون التخصيص واقعاً بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد وقولوا للمؤمنين حسناً. والثاني : أن يقع بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد قولوا للناس حسناً في الدعاء إلى الله تعالى. وفي الأمر المعروف، فعلى الوجه الأول : يتطرق التخصيص إلى المخاطب دون الخطاب وعلى الثاني : يتطرق إلى الخطاب دون المخاطب، وزعم أبو جعفر محمد بن علي الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره وأنه لا حاجة إلى التخصيص، وهذا هو الأقوى والدليل عليه أن موسى وهرون مع جلال منصبهما أمرا بالرفق واللين مع فرعون، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلّم مأمور بالرفق وترك الغلظة وكذلك قوله تعالى :﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ (النحل : ١٢٥) وقال تعالى :﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ (الأنعام : ١٠٨) وقوله :﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان : ٧٢) وقوله :﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ﴾ (الأعراف : ١٩٩) أما الذي تمسكوا به أولاً من أنه يجب لعنهم وذمهم فلا يمكنهم القول الحسن معهم، قلنا : أولاً لا نسلم أنه يجب لعنهم وسبهم والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ (الأنعام : ١٠٨) سلمنا أنه يجب لعنهم لكن لا نسلم أن اللعن ليس قولاً حسناً بيانه : أن القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يشتهونه ويحبونه، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ونحن إذا لعناهم وذممناهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك المعنى نافعاً في حقهم فكان ذلك اللعن قولاً حسناً ونافعاً، كما أن تغليظ الوالد في القول قد يكون حسناً ونافعاً من حيث إنه يرتدع به عن الفعل القبيح، سلمنا أن لعنهم ليس قولاً حسناً ولكن لا نسلم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن، بيانه أنه لا منافاة بين كون الشخص مستحقاً للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ومستحقاً للتحقير بسبب كفره، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يكون وجوب القول الحسن معهم، وأما الذي تمسكوا به ثانياً وهو قوله تعالى :﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَن ظُلِمَ ﴾ (النساء : ١٤٨) فالجواب لم لا يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم / ليحترز الناس عنه ؟
وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلّم :"اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٨