واعلم أن هذه الآية تدل على أن الحسد حرام. ولما كان البغي قد يكون لوجوه شتى بين تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله :﴿أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ﴾ والقصة لا تليق إلا بما حكيناه من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد.
أما قوله تعالى :﴿فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير الغضبين وجوه، أحدها : أنه لا بد من إثبات سببين للغضبين. أحدهما : ما تقدم وهو تكذيبهم عيسى عليه السلام وما أنزل عليه والآخر تكذيبهم محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه فصار ذلك دخولاً في غضب بعد غضب وسخط بعد سخط من قبله تعالى لأجل أنهم دخلوا في سبب بعد سبب، وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة، الثاني : ليس المراد إثبات غضبين فقط بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم :﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ (التوبة : ٣٠). ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ (المائدة : ٦٤). ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾ (آل عمران : ١٨١) وغير ذلك من أنواع كفرهم، وهو قول عطاء وعبيد بن عمير، الثالث : أن المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحداً إلا أنه عظم، وهو قول أبي مسلم. الرابع : الأول بعبادتهم العجل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجحدهم نبوته عن السدي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٩
المسألة الثانية : الغضب عبارة عن التغير الذي يعرض للإنسان في مزاجه عند غليان دم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه وذلك محال في حق الله تعالى، فهو محمول على إرادته لمن عصاه الإضرار من جهة اللعن والأمر بذلك.
المسألة الثالثة : أنه يصح وصفه تعالى بالغضب وأن غضبه يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته من العذاب فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال كثيرة.
أما قوله تعالى :﴿وَلِلْكَـافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿وَلِلْكَـافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ له مزية على قوله ولهم عذاب مهين لأن العبارة الأولى يدخل فيها أولئك الكفار وغيرهم والعبارة الثانية لا يدخل فيها إلا هم.
المسألة الثانية : العذاب في الحقيقة لا يكون مهيناً لأن معنى ذلك أنه أهان غيره وذلك مما لا يتأتى إلا فيما يعقل، فالله تعالى هو المهين للمعذبين بالعذاب الكثير إلا أن الإهانة لما / حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه، فإن قيل : العذاب لا يكون إلا مع الإهانة فما الفائدة في هذا الوصف ؟
قلنا : كون العذاب مقروناً بالإهانة أمر لا بد فيه من الدليل، فالله تعالى ذكر ذلك ليكون دليلاً عليه.
المسألة الثالثة : قال قوم : قوله تعالى :﴿وَلِلْكَـافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ يدل على أنه لا عذاب إلا للكافرين، ثم بعد تقرير هذه المقدمة احتج بهذه الآية فريقان، أحدهما : الخوارج قالوا : ثبت بسائر الآيات أن الفاسق يعذب، وثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر فيلزم أن يقال الفاسق كافر. وثانيها : المرجئة قالوا : ثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر وثبت أن الفاسق ليس بكافر، فوجب القطع بأنه لا يعذب وفساد هذين القولين لا يخفى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٩
٦٠٢
اعلم أن هذا النوع أيضاً من قبائح أفعالهم :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ يعني به اليهود :﴿بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا ﴾ أي بكل ما أنزل الله، والقائلون بالعموم احتجوا بهذه الآية على أن لفظة "ما" بمعنى الذي تفيد العموم، قالوا : لأن الله تعالى أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل الله فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ولولا أن لفظة "ما" تفيد العموم لما حسن هذا الذم، ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أمروا بذلك :﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعني بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه وهو الإنجيل والقرآن. وأورده هذه الحكاية عنهم على سبيل الذم لهم وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم آمنوا بما أنزل الله إلا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلاً من عند الله وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق وإذا دل الدليل على كونه منزلاً من عند الله وجب الإيمان به، فثبت أن الإيمان ببعض ما أنزل الله دون البعض تناقض.


الصفحة التالية
Icon