أما المنكرون فقد احتجوا بأمور : الأول : قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله ﴿وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ﴾ (إبراهيم : ٢٢) صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان إلا من الوجه الواحد، وهو إلقاء الوسوسة والدعوة إلى الباطل. الثاني : لا شك أن الأنبياء والعلماء المحققين يدعون الناس إلى لعن الشيطان والبراءة منه، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم أعظم أنواع العداوة، فلو كانوا قادرين على النفوذ في بواطن البشر وعلى إيصال البلاء والشر إليهم لوجب أن يكون تضرر الأنبياء والعلماء منهم أشد من تضرر كل أحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه باطل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
صفة الملائكة :
المسألة السابعة : اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون وشربون، قال عليه السلام في الروث والعظم :"إنه زاد إخوانكم من الجن" وأيضاً فإنهم يتوالدون قال تعالى :﴿أَفَتَتَّخِذُونَه وَذُرِّيَّتَه ا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى﴾ (الكهف : ٥٠).
وسوسة الشيطان :
المسألة الثامنة في كيفية الوسوسة بناءً على ما ورد في الآثار : ذكروا أنه يغوص في باطن الإنسان/ ويضع رأسه على حبة قلبه، ويلقي إليه الوسوسة واحتجوا عليه بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، ألا فضيقوا مجاريه بالجوع" وقال عليه السلام :"لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات".
ومن الناس من قال : هذه الأخبار لا بد، من تأويلها، لأنه يمتنع حملها على ظواهرها، واحتج عليه بوجوه : الأول : أن نفوذ الشياطين في بواطن الناس محال ؛ لأنه يلزم إما اتساع تلك المجاري أو تداخل تلك الأجسام. الثاني : ما ذكرنا أن العداوة الشديدة حاصلة بينه وبين أهل الدين، فلو قدر على هذا النفوذ فلم لا يخصهم بمزيد الضرر ؟
الثالث : أن الشيطان مخلوق من النار، فلو دخل في داخل البدن لصار كأنه نفذ النار في داخل البدن، ومعلوم أنه / لا يحس بذلك. الرابع : أن الشياطين يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق، ثم إنا نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثراً ولا فائدة، وبالجملة فلا نرى لا من عداوتهم ضرراً ولا من صداقتهم نفعاً.
وأجاب مثبتو الشياطين عن السؤال الأول : بأن على القول بأنها نفوس مجردة فالسؤال زائل، وعلى القول بأنها أجسام لطيفة كالضوء والهواء فالسؤال أيضاً زائل، وعن الثاني : لا يبعد أن يقال : إن الله وملائكته يمنعونهم عن إيذاء علماء البشر، وعن الثالث : أنه لما جاز أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم ﴿قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى ا إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء : ٦٩) فلم لا يجوز مثله ههنا، وعن الرابع : أن الشياطين مختارون، ولعلهم يفعلون بعض القبائح دون بعض.
تحقيق الكلام في الوسوسة :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
المسألة التاسعة، في تحقيق الكلام في الوسوسة على الوجه الذي قرره الشيخ الغزالي في كتاب "الأحياء"، قال : القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب، أو مثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب، أو مثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص، فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو مثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة واعلم أن مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ساعة فساعة إما من الظاهر كالحواس الخمس، وإما من البواطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة في مزاج الإنسان، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذا إذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الأحوال آثار في القلب، وأما إذا منع الإنسان عن الإدراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال، فالقلب دائماً في التغير والتأثر من هذه الأسباب، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر، وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار، وأعني بها إدراكات وعلوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر، وإنما تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بالخيال بعد أن كان القلب غافلاً عنها، فالخواطر هي المحركات للإرادات، والإرادات محركة للأعضاء، ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الإرادات تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة ـ وإلى ما ينفع ـ أعني ما ينفع في العاقبة ـ فهما خاطران مختلفان، فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً، والمذموم يسمى وسواساً، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر أحوال حادثة فلا بدّ لها من سبب، والتسلسل محال، فلا بدّ من انتهاء الكل إلى واجب الوجود، وهذا ملخص كلام الشيخ الغزالي بعد حذف التطويلات منه.
تحقيق كلام الغزالي :


الصفحة التالية
Icon