أما قوله تعالى :﴿وَهُدًى﴾ فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين. أحدهما : بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى. وثانيهما : بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى، ولما كان الأول مقدماً على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى، فإن قيل : ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل ؟
الجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى إنما خصهم بذلك، لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾. والثاني : أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين، وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين، فلهذا خصهم الله به.
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى :﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلـا ـاـاِكَتِه ﴾ فاعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى :﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ﴾ لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد، وجب أن يكون عدواً لله تعالى، بين في هذه الآية أن من كان عدواً لله كان عدواً له، فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله لهم، لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر، وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ومن حق العداوة الإضرار بالعدو، وذلك محال على الله تعالى ؟
والجواب : أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا لأن العدو / للغير هو الذي يريد إنزال المضار به، وذلك محال على الله تعالى، بل المراد منه أحد وجهين، إما أن يعادوا أولياء الله فيكون ذلك عداوة لله كقوله :﴿إِنَّمَا جَزَا ؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ (المائدة : ٣٣) وكقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ (الأحزاب : ٥٧) لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه، وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته وبعدهم عن التمسك بذلك فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة، فأما عداوتهم لجبريل والرسل فصحيحة لأن الإضرار جائز عليهم لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم، وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة، وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٠
السؤال الثاني : لما ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة ؟
الجواب لوجهين، الأول : أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنساً آخر سوى جنس الملائكة، الثاني : أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جرم نص على اسميهما، واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل، وإذا ثبت هذا فنقول : يجب أن يكون جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل لوجوه، أحدها : أنه تعالى قدم جبريل عليه السلام في الذكر، وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً فوجب أن يكون مستقبحاً شرعاً لقوله عليه السلام :"ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"، وثانيها : أن جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم وهو مادة بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل، وثالثها : قوله تعالى في صفة جبريل :﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ ذكره يوصف المطاع على الإطلاق، وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه.
المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ميكال بوزن قنطار، ونافع ميكائل مختلسة ليس بعد الهمزة ياء على وزن ميكاعل، وقرأ الباقون ميكائيل على وزن ميكاعيل، وفيه لغة أخرى ميكئيل على وزن ميكعيل، وميكئيل كميكعيل، قال ابن جنى : العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه.
المسألة الثالثة : الواو في جبريل وميكال، قيل : واو العطف، وقيل : بمعنى أو يعني من كان عدواً لأحد من هؤلاء فإن الله عدو لجميع الكافرين.
المسألة الرابعة :﴿عَدُوٌّ لِّلْكَـافِرِينَ﴾ أراد عدو لهم إلا أنه جاء بالظاهر ليدل على أن الله تعالى إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٠
٦١٤