المسألة السادسة : السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان عليه السلام وجوه. أحدها : أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم، وثانيها : أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر. وثالثها : أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان فكان يخالطهم ويستفيد منهم أسراراً عجيبة فغلب على الظنون أنه عليه الصلاة والسلام استفاد السحر منهم.
أما قوله تعالى :﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـانُ﴾ فهذا تنزيه له عليه السلام عن الكفر، وذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر : قيل فيه أشياء، أحدها : ما روي عن بعض أخبار اليهود أنهم قالوا : ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً، فأنزل الله هذه الآية. وثانيها : أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله تعالى منه. وثالثها : أن قوماً زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً، ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال :﴿وَلَـاكِنَّ الشَّيَـاطِينَ كَفَرُوا ﴾ يشير / به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه وينسبه إلى سليمان، ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم ما كفروا أولاً بالسحر فقال تعالى :﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ واعلم أن الكلام في السحر يقع من وجوه.
المسألة الأولى : في البحث عنه بحسب اللغة فنقول : ذكر أهل اللغة أنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه والسحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه، قال لبيد :
ونسحر بالطعام وبالشراب
قيل فيه وجهان، أحدهما : أنا نعلل ونخدع كالمسحور المخدوع، والآخر : نغذي وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر
وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول، ويحتمل أيضاً أن يريد بالمسحر أنه ذو سحر، والسحر هو الرئة، وما تعلق بالحلقوم وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء ومنه قول عائشة رضي الله عنها :"توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين سحري ونحري"، وقوله تعالى :﴿إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ (الشعراء : ١٥٣)، يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب يدل عليه قولهم :﴿مَآ أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ (الشعراء : ١٥٤) ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا، وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال للسحرة :﴿مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُا إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُه ا ﴾ (يونس : ٨١) وقال :﴿فَلَمَّآ أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ (الأعراف : ١١٦) فهذا هو معنى السحر في أصل اللغة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٧
المسألة الثانية : اعلم أن لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع، ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله. قال تعالى :﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ (الأعراف : ٦٦) يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال تعالى :﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ (طه : ٦٦) وقد يستعمل مقيداً فيما يمدح ويحمد. روي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، فقال لعمرو : خبرني عن الزبرقان، فقال : مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره، فقال الزبرقان : هو والله يعلم أني أفضل منه، فقال عمرو : إنه زمن المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت فيهما، أرضاني فقلت : أحسن ما علمت وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"إن من البيان لسحراً" فسمى النبي صلى الله عليه وسلّم بعض البيان سحراً لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته، فإن قيل : كيف يجوز أن يسمى ما يوضح الحق وينبيء عنه سحراً ؟
وهذا القائل إنما قصد إظهار الخفى لا إخفاء الظاهر ولفظ السحر إنما يفيد إخفاء الظاهر ؟
قلنا : إنما سماه سحراً لوجهين، الأول : أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب، فمن هذا الوجه سمي سحراً، لا من الوجه الذي ظننت /. الثاني : أن المقتدر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً وتقبيح ما يكون حسناً فذلك يشبه السحر من هذا الوجه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٧