يحكى أن بعض الملوك عرض له فالج فأعيا الأطباء مزاولة علاجه، فدخل عليه بعض الحذاق منهم على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض، فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية لما ناله من شدة ذلك الكلام فزالت تلك العلة المزمنة والمرضة المهلكة. وإذا جاز كون التصورات مبادىء لحدوث الحوادث في البدن فأي استبعاد من كونها مبادىء لحدوث الحوادث خارج البدن. وسابعها ؛ أن الإصابة بالعين أمر قد اتفق عليه العقلاء وذلك أيضاً يحقق إمكان ما قلناه. إذا عرفت هذا فنقول : النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات والأدوات وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات. وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم (السماء) كانت كأنها روح من الأرواح السماوية، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم، أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف ألبتة إلا في هذه البدن، فإذا أراد هذا الإنسان صيرورتها بحيث يتعدى تأثير من بدنها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس واشتغل الحس به فيتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة عليه فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية، ولذلك أجمعت الأمم على أنه لا بد لمزاولة هذه الأعمال من انقطاع المألوفات والمشتهيات وتقليل الغذاء والانقطاع عن مخالطة الخلق. وكلما كانت هذه الأمور أتم كان ذلك التأثير أقوى، فإذا اتفق أن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر نظراً إلى ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير، والسبب المتعين فيه أن النفس إذا أشعلت بالجانب الأول اشتغلت جميع قوتها في ذلك الفعل وإذا اشتغلت بالأفعال الكثيرة تفرقت قوتها وتوزعت على تلك الأفعال تتصل إلى كل واحد من تلك الأفعال شعبة من تلك القوة وجدول من ذلك النهر. ولذلك نرى أن إنسانين يستويان في قوة الخاطر إذا اشتغل أحدهما بصناعة واحدة واشتغل الآخر بصناعتين. فإن (ذا الفن) الواحد يكون أقوى من ذي الفنين، ومن حاول الوقوف على حقيقة مسألة من المسائل فإنه حال تفكره فيها لا بد وأن يفرغ خاطره عما عداها، فإنه عند تفريغ الخاطر يتوجه الخاطر بكليته إليه فيكون الفعل أسهل وأحسن، وإذا كان كذلك فإذا كان الإنسان مشغول الهم والهمة بقضاء اللذات وتحصيل الشهوات كانت القوة النفسانية مشغولة بها مستغرقة فيها، فلا يكون انجذابها إلى تحصيل الفعل الغريب الذي يحاوله انجذاباً قوياً لا سيما وههنا آفة أخرى وهي أن مثل هذه النفس قد اعتادت الاشتغال باللذات من أول أمرها إلى آخره، ولم تشتغل قط باستحداث هذه الأفعال الغريبة، فهي بالطبع حنون إلى الأول عزوف إلى الثاني، فإذا وجدت مطلوبها من النمط الأول فإنى تلتفت / إلى الجانب الآخر ؟
فقد ظهر من هذا أن مزاولة هذه الأعمال لا تتأتى إلا مع التجرد عن الأحوال الجسمانية وترك مخالطة الخلق والاقبال بالكلية على عالم الصفاء والأرواح. وأما الرقى فإن كانت معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حس البصر كما شغلناه بالأمور المناسبة، لذلك الغرض فحس السمع نشغله أيضاً بالأمور المناسبة لذلك الغرض، فإن الحواس متى تطابقت على التوجه إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه حينئذ أقوى، وأما إن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة، فإن الإنسان إذا اعتقد أن هذه الكلمات إنما تقرأ للاستعانة بشيء من الأمور الروحانية ولا يدري كيفية تلك الاستعانة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة، ويحصل للنفس في أثناء ذلك انقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل وجد عظيم، فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض، وهكذا القول في الدخن، قالوا : فقد ثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مشتغل بالتأثير، فإن انضم إليه النوع الأول من السحر وهو الاستعانة بالكواكب وتأثيراتها عظم التأثير، بل ههنا نوعان آخران، الأول : أن النفوس التي فارقت الأبدان قد يكون فيها ما هو شديد المشابهة لهذه النفوس في قوتها وفي تأثيراتها، فإذا صارت تلك النفوس صافية لم يبعد أن ينجذب إليها ما يتشابهها من النفوس المفارقة ويحصل لتلك النفوس نوع ما من التعلق بهذا البدن فتتعاضد النفوس الكثيرة على ذلك الفعل، وإذا كملت القوة وتزايدت قوى التأثير، الثاني : أن هذه النفوس الناطقة إذا صارت صافية عن الكدورات البدنية صارت قابلة للأنوار الفائضة من الأرواح السماوية والنفوس الفلكية، فتقوى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح، فتقوى على أمور غريبة خارقة للعادة فهذا شرح سحر أصحاب الأوهام والرقى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٧