بقي في الآية سؤال : وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله :﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا ﴾ ثم نفاه عنهم في قوله :﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ والجواب من وجوه، أحدها : أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه وهم الذين قال الله في حقهم :﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ كِتَـابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون، وهذا جواب الأخفش وقطرب. وثانيها : لو سلمنا كون القوم واحداً ولكنهم علموا شيئاً وجهلوا شيئاً آخر، علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق ولكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة، وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها. وثالثها : لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ولكنهم لم ينتفعوا بعلمهم بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار :﴿صُمًّا﴾ إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس. ويقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه : صنعت ولم تصنع.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٧
٦٣٣
اعلم أن الضمير عائد إلى اليهود الذين تقدم ذكرهم، فإنه تعالى لما بين فيهم الوعيد بقوله :﴿مِنْ خَلَـاقٍا وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِه ﴾ (البقرة : ١٠٢) أتبعه بالوعد جامعاً بين الترهيب والترغيب لأن الجمع بينهما أدعى إلى الطاعة والعدول عن المعصية.
أما قوله تعالى :﴿ءَامَنُوا ﴾ فاعلم أنه تعالى لما قال :﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ كِتَـابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ (البقرة : ١٠١) ثم وصفهم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين وأنهم تمسكوا بالسحر. قال من بعد :﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا ﴾ يعني بما نبذوه من كتاب الله. فإن حملت ذلك على القرآن جاز، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز ؛ وإن حملته على الأمرين جاز، والمراد من التقوى الاحتراز عن فعل المنهيات وترك المأمورات.
أما قوله تعالى :﴿لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ ﴾ ففيه وجوه، أحدها : أن الجواب محذوف وتقديره ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا إلا أنه تركت الجملة الفعلية إلى هذه الإسمية لما في الجملة الإسمية من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها. فإن قيل : هلا قيل لمثوبة الله خير ؟
قلنا : لأن المراد لشيء من ثواب الله خير لهم. وثانيها : يجوز أن يكون قوله :﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا ﴾ تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل : وليتهم آمنوا، ثم ابتدأ. لمثوبة من عند الله خير.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٣
٦٣٤
اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام أراد من ههنا أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم وجدهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه وهذا هو النوع الأول من هذا الباب وههنا مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى :﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن. قال ابن عباس : وكان يخاطب في التوراة بقوله : يا أيها المساكين فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخراً حيث قال :﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ (البقرة : ٦١)، وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولاً فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النيران يوم القيامة، وأيضاً فاسم المؤمن أشرف الأسماء والصفات، فإذا كان يخاطبنا في الدنيا بأشرف الأسماء والصفات فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٤