جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٤
٦٣٥
واعلم أنه تعالى لما بين حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة حذر المؤمنين منهم فقال :﴿مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فنفى عن قلوبهم الود والمحبة لكل ما يظهر به فضل المؤمنين وههنا مسألتان :
المسألة الأولى :"من" الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشكرون، والدليل عليه قوله تعالى :﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ (البينة : ١)والثانية : مزبده لاستغراق الخير، والثالثة : لابتداء الغاية.
المسألة الثانية : الخير الوحي وكذلك الرحمة، يدل عليه قوله تعالى :﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ (الزخرف : ٣٢) المعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحي إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي.
ثم بين سبحانه أن ذلك الحسد لا يؤثر في زوال ذلك، فإنه سبحانه يختص برحمته وإحسانه من يشاء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٥
٦٣٦
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من طعن اليهود في الإسلام، فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً وغداً يرجع عنه، فنزلت هذه الآية، والكلام في الآية مرتب على مسائل :
المسألة الأولى : النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء، وقال القفال : إنه للنقل والتحويل لنا أنه يقال : نسخت الريح آثار القوم إذا عدمت، ونسخت الشمس الظل إذا عدم، لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه، وقال تعالى :﴿إِلا إِذَا تَمَنَّى ا أَلْقَى الشَّيْطَـانُ فِى أُمْنِيَّتِه فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ﴾ (الحج : ٥٢) أي يزيله ويبطله، والأصل في الكلام الحقيقة. وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب أن لا يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك. فإن قيل : وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار، والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز، لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى، وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول : بل النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنه ينقله إليه أو ينقل حكايته، ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرناً بعد قرن، وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً عن الأول، وقال تعالى :﴿هَـاذَا كِتَـابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّا إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الجاثية : ٢٩) فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإبطال دفعاً للاشتراك، والجواب عن الأول من وجهين. أحدهما : أنه لا يمتنع أن يكون الله هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ويكونان أيضاً ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير. والثاني : أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح، فهب أنه كذلك، لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لاسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس، وعن الثاني : أن النقل أخص من الإبطال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصل عقيبها صفة أخرى، فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر، وإذا دار اللفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى والله أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٦