الحجة الخامسة : قوله تعالى :﴿سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ (البقرة : ١٤٢) ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ (البقرة : ١٤٤). قال أبو مسلم : حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند الإشكال أو مع العلم إذا كان هناك عذر. الجواب : أن على ما ذكرته لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات، فالخصوصية التي بها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد زالت بالكلية فكان نسخاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٦
الحجة السادسة : قوله تعالى :﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرا ﴾ (النحل : ١٠١) والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم، فكيف كان فهو رفع ونسخ، وإنما أطنبنا في هذه الدلائل لأن كل واحد منها يدل على وقوع النسخ في الجملة واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل. والجواب : أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ولا يأتيه من بعده أيضاً ما يبطله.
المسألة السابعة : المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط أو التلاوة فقط أو هما معاً، أما الذي يكون المنسوخ هو الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات التي عددناها، وأما الذي يكون المنسوخ هو التلاوة فقط فكما يروى عن عمر أنه قال : كنا نقرأ آية الرجم :"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم" وروي :"لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب"، وأما الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة معاً، فهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثم نسخن بخمس معلومات، فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم. ويروى أيضاً أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان فيه.
المسألة الثامنة : اختلف المفسرون في قوله تعالى :﴿مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا﴾ فمنهم من / فسر النسخ بالإزالة ومنهم من فسره بالنسخ بمعنى نسخت الكتاب وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب، ومن قال بالقول الأول ذكروا فيه وجوهاً، أحدها : ما ننسخ من آية وأنتم تقرءونه أو ننسها أي من القرآن ما قرىء بينكم ثم نسيتم وهو قول الحسن والأصم وأكثر المتكلمين فحملوه على نسخ الحكم دون التلاوة، وننسها على نسخ الحكم والتلاوة معاً، فإن قيل : وقوع هذا النسيان ممنوع عقلاً وشرعاً. أما العقل فلأن القرآن لا بد من إيصاله إلى أهل التواتر، والنسيان على أهل التواتر بأجمعهم ممتنع. وأما النقل فلقوله تعالى :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ﴾ (الحجر : ٩) والجواب عن الأول من وجهين. الأول : أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن وإخراجه من جملة ما يتلى ويؤتى به في الصلاة أو يحتج به، فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي أو إن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد فيصير لهذا الوجه منسياً عن الصدور، الجواب الثاني : أن ذلك يكون معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام، ويروى فيه خبر : أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها، والجواب عن الثاني : أنه معارض بقوله تعالى :﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلا مَا شَآءَ اللَّه ﴾ (الأعلى : ٦) وبقوله :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ (الكهف : ٢٤).
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٦
القول الثاني : ما ننسخ من آية أي نبدلها، إما بأن نبدل حكمها فقط أو تلاوتها فقط أو نبدلهما، أما قوله تعالى :﴿أَوْ نُنسِهَا﴾ فالمراد نتركها كما كانت فلا نبدلها، وقد بينا أن النسيان بمعنى الترك قد جاء، فيصير حاصل الآية أن الذي نبدله فإنا نأتي بخير منه أو مثله.
القول الثالث : ما ننسخ من آية، أي ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها على قراءة الهمزة أي نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ/ أو يكون المراد نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال، فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة.
القول الرابع : ما ننسخ من آية، وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم والتلاوة معاً، أو ننسها، أي نتركها وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم ولكنها غير منسوخة في التلاوة، بل هي باقية في التلاوة، فأما من قال بالقول الثاني : ما ننسخ من آية، أي ننسخها من اللوح المحفوظ أو ننسأها، نؤخرها. وأما قراءة "ننسها" فالمعنى نتركها يعني نترك نسخها فلا ننسخها.
وأما قوله :﴿مِنْ ءَايَةٍ﴾ فكل المفسرين حملوه على الآية من القرآن غير أبي مسلم فإنه حمل ذلك على التوراة والإنجيل وقد تقدم القول فيه.