المسألة التاسعة : استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن القرآن مخلوق من وجوه، أحدها : أن كلام الله تعالى لو كان قديماً لكان الناسخ والمنسوخ قديمين، لكن ذلك محال، لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً عن المنسوخ، والمتأخر عن الشيء يستحيل أن يكون قديماً، وأما المنسوخ فلأنه يجب أن يزول ويرتفع، وما ثبت زواله استحال قدمه بالإتفاق، وثانيها : أن الآية دلت على أن بعض القرآن خير من بعض، وما كان كذلك لا يكون قديماً، وثالثها : أن قوله :﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يدل على أن المراد أنه تعالى هو القادر على نسخ بعضها والإتيان بشيء آخر بدلاً من الأول، وما كان داخلاً تحت القدرة وكان فعلاً كان محدثاً، أجاب الأصحاب عنه : بأن كونه ناسخاً ومنسوخاً إنما هو من عوارض الألفاظ والعبارات واللغات ولا نزاع في حدوثها، فلم قلتم إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث ؟
قالت المعتزلة : ذلك المعنى الذي هو مدلول العبارات واللغات لا شك أن تعلقه الأول قد زال وحدث له تعلق آخر، فالتعلق الأول محدث لأنه زال والقديم لا يزول، والتعلق الثاني حادث لأنه حصل بعدما لم يكن، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات، وما لا ينفك عن هذه التعلقات (محدث) وما لا ينفك عن المحدث محدث والكلام الذي تعلقت به يلزم أن يكون محدثاً. أجاب الأصحاب : أن قدرة الله كانت في الأزل متعلقة بإيجاد العالم، فعند دخول العالم في الوجود هل بقي ذلك التعلق أو لم يبق ؟
فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادراً على إيجاد الموجود وهو محال، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق فيلزمكم حدوث قدرة الله على الوجه الذي ذكرتموه، وكذلك علم الله كان متعلقاً بأن العالم سيوجد، فعند دخول العالم في الوجود إن بقي التعلق الأول كان جهلاً، وإن لم يبق فيلزمكم كون التعلق الأول حادثاً، لأنه لو كان قديماً لما زال، وبكون التعلق الذي حصل بعد ذلك حادثاً فإذن عالمية الله تعالى لا تنفك عن التعلقات الحادثة، وما لا ينفك عن المحدث محدث فعالمية الله محدثة. فكل ما تجعلونه جواباً عن العالمية والقادرية فهو جوابنا عن الكلام.
المسألة العاشرة : احتجوا بقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ على أن المعدوم شيء وقد تقدم وجه تقريره فلا نعيده، والقدير فعيل بمعنى الفاعل وهو بناء المبالغة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٦
٦٤٣
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بجواز النسخ عقبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره، وهذا هو التنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حسن منه الأمر والنهي لكونه مالكاً للخلق وهذا هو مذهب أصحابنا وإنه إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكاً للخلق مستولياً عليهم لا لثواب يحصل، أو لعقاب يندفع. قال القفال : ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمر القبلة، فإنه تعالى أخبرهم بأنه مالك السموات والأرض وأن الأمكنة والجهات كلها له وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض إلا من حيث يجعلها هو تعالى له، وإذا كان كذلك وكان الأمر باستقبال القبلة إنما هو محض التخصيص بالتشريف، فلا مانع يمنع من تغيره من جهة إلى جهة، وأما الولي والنصير فكلاهما فعيل بمعنى فاعل على وجه المبالغة، ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن الملك غير القدرة، فقال : إنه تعالى قال أولاً :﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ثم قال بعده :﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ فلو كان الملك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريراً من غير فائدة، والكلام في حقيقة الملك والقدرة قد تقدم في قوله :﴿مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ (الفاتحة : ٤).
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٤٣
٦٤٣
المسألة الأولى :"أم" على ضربين متصلة ومنقطعة، فالمتصلة عديلة الألف وهي مفرقة لما جمعته أي، كما أن "أو" مفرقة لما جمعته تقول : اضرب أيهم شئت زيداً أم عمراً، فإذا قلت : اضرب أحدهم قلت : اضرب زيداً أو عمراً، والمنقطعة لا تكون إلا بعد كلام تام، لأنها بمعنى بل والألف، كقول العرب : إنها الإبل أم شاء، كأنه قال : بل هي شاء، ومنه قوله تعالى :﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه ﴾ (الأحقاف : ٨) أي : بل يقولون، قال الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا


الصفحة التالية
Icon