واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا : فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر، وإما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان، سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك، وإما أن يقال : خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى : أما القسم الأول ـ وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان ـ فهذا قول باطل، لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادراً على تركه، فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه، ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها، فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره، وأما القسم الثاني ـ وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر ـ فهو ظاهر الفساد، ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث ـ وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
أما الذين قالوا إن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى، فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين، وأما الذين قالوا أنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى.
واعلم أن الثنوية يقولون : للعالم إلهان : أحدهما : خير وعسكره الملائكة، والثاني : شرير وعسكره الشياطين، وهما يتنازعان أبداً كل شيء في هذا العالم، فلكل واحد منهما تعلق به، والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر الله، والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان، واعلم أن القول بإثبات الآلهين قول باطل فاسد، على ما ثبت فساده بالدلائل، فهذا منتهى القول في هذا الباب.
المسألة الثانية عشرة : من الناس من أثبت لهذه الشياطين قدرة على الأحياء، وعلى الأماتة وعلى خلق الأجسام، وعلى تغيير الأشخاص عن صورتها الأصلية وخلقتها الأولية، ومنهم من أنكر هذه الأحوال، وقال : إنه لا قدرة لها على شيء من هذه الأحوال.
أما أصحابنا فقد أقاموا الدلالة على أن القدرة على الإيجاد والتكوين والأحداث ليست إلا لله، فبطلت هذه المذاهب بالكلية.
وأما المعتزلة فقد سلموا أن الإنسان قادر على إيجاد بعض الحوادث، فلا جرم صاروا محتاجين إلى بيان أن هذه الشياطين لا قدرة لها على خلق الأجسام والحياة، ودليلهم أن قالوا الشيطان جسم، وكل جسم فإنه قادر بالقدرة، والقدرة لا تصلح لإيجاد الأجسام، فهذه مقدمات ثلاث : المقدمة الأولى : أن الشيطان جسم، وقد بنوا هذه المقدمة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز وإما حال في المتحيز، وليس لهم في إثبات هذه المقدمة شبهة فضلاً عن حجة. وأما المقدمة الثانية ـ وهي قولهم الجسم إنما يكون قادراً بالقدرة ـ فقد بنوا هذا على أن الأجسام مما تستلزم مماثلة، فلو كان شيء منها قادراً لذاته لكان الكل قادراً لذاته، وبناء هذه المقدمة على تماثل الأجسام، وأما المقدمة الثالثة ـ وهي قولهم هذه القدرة التي لنا لا تصلح لخلق الأجسام فوجب أن لا تصلح القدرة الحادثة لخلق الأجسام ـ وهذا أيضاً ضعيف، لأنه يقال لهم لم لا يجوز حصول قدرة مخالفة لهذه القدرة الحاصلة لنا وتكون تلك القدرة صالحة لخلق الأجسام فإنه لا يلزم من عدم وجود الشيء في الحال امتناع وجوده/ فهذا إتمام الكلام في هذه المسألة.
هل يعلم الجن الغيب :
المسألة الثالثة عشرة : اختلفوا في أن الجن هل يعلمون الغيب ؟
وقد بين الله تعالى في كتابه أنهم بقوا في قيد سليمان عليه السلام وفي حبسه بعد موته مدة وهم ما كانوا يعلمون موته، وذلك يدل على أنهم لا يعلمون الغيب، ومن الناس من يقول أنهم يعلمون الغيب، ثم اختلفوا فقال بعضهم إن فيهم من يصعد إلى السموات أو يقرب منها ويخبر ببعض الغيوب على ألسنة الملائكة، ومنهم من قال : لهم طرق أخرى في معرفة الغيوب لا يعلمها إلا الله، واعلم أن فتح الباب في أمثال هذه المباحث لا يفيد إلا الظنون والحسبانات والعالم بحقائقها هو الله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
أسباب الاستعاذة وأركانها :
الركن الخامس من أركان مباحث الاستعاذة. المطالب التي لأجلها يستعاذ.
اعلم أنا قد بينا أن حاجات العبد غير متناهية، فلا خير من الخيرات إلا وهو محتاج إلى تحصيله، ولا شر من الشرور إلا وهو محتاج إلى دفعه وإبطاله، فقوله :(أعوذ بالله) يتناول دفع جميع الشرور الروحانية والجسمانية، وكلها أمور غير متناهية، ونحن ننبه على معاقدها فنقول : الشرور إما أن تكون من باب الاعتقادات الحاصلة في القلوب، وإما أن تكون من باب الأعمال الموجودة في الأبدن، أما القسم الأول فيدخل فيه جميع العقائد الباطلة.