أما قوله تعالى :﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ﴾ فهذا يدل على أن اليهود بعدما أرادوا صرف المؤمنين عن الإيمان احتالوا في ذلك بإلقاء الشبه على ما بيناه، ولا يجوز أن يأمرهم تعالى بالعفو والصفح على وجه الرضا بما فعلوا، لأن ذلك كفر، فوجب حمله على أحد أمرين، الأول : أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله / تعالى :﴿قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ (الجاثية : ١٤) وقوله :﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا﴾ (المزمل : ١٠) ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام بل علقه بغاية فقال :﴿وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِه ﴾ وذكروا فيه وجوه، أحدها : أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن، وثانيها : أنه قوة الرسول وكثرة أمته. وثالثها : وهو قول أكثر الصحابة والتابعين، إنه الأمر بالقتال لأن عنده يتعين أحد أمرين : إما الإسلام، وإما الخضوع لدفع الجزية وتحمل الذل والصغار، فلهذا قال العلماء : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعلاى :﴿قَـاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ (التوبة : ٢٩) وعن الباقر رضي الله عنه أنه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقتال حتى نزل جبريل عليه السلام بقوله :﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ (الحج : ٣٩) وقلده سيف فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر، وههنا سؤالان :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٤٤
السؤال الأول : كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله :﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ﴾ (البقرة : ١٨٧) وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً فكذا ههنا، الجواب : أن الغاية التي يعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً ويحل محل قوله :﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ﴾ إلى أن أنسحه عنكم. السؤال الثاني : كيف يعفون ويصفحون والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة والصفح لا يكون إلا عن قدرة ؟
والجواب : أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عدوه عن نفسه وأن يستعين بأصحابه، فأمر الله تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيجوا شراً وقتالاً.
القول الثاني : في التفسير قوله :﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ﴾ حسن الاستدعاء، واستعمل ما يلزم فيه من النصح والإشفاق والتشدد فيه، وعلى هذا التفسير لا يجوز نسخه وإنما يجوز نسخه على التفسير الأول.
أما قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو تحذير لهم بالوعيد سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٤٤
اعلم أنه تعالى أمر بالعفو والصفح عن اليهود، ثم عقبه بقوله تعالى :﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَ بَنِى ﴾ تنبيهاً على أنه كما ألزمهم لحظ الغير وصلاحه العفو والصفح، فكذلك ألزمهم لحظ أنفسهم وصلاحها القيام بالصلاة والزكاة الواجبتين، ونبه بهما على ما عداهما من الواجبات. ثم قال بعده :﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ﴾ والأظهر أن المراد به التطوعات من الصلوات والزكوات، وبين تعالى أنهم يجدونه وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال لأنها لا تبقى ولأن وجدان عين تلك الأشياء لا يرغب فيه، فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه، ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي أنه لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال وهو ترغيب من حيث يدل على أنه تعالى يجازي على القليل كما يجازي على الكثير، وتحذير من خلافه الذي هو الشر، وأما الخير فهو النفع الحسن وما يؤدي إليه، فلما كان ما يأتيه المرء من الطاعة يؤدي به إلى المنافع العظيمة، وجب أن يوصف بذلك، وعلى هذا الوجه قال تعالى :﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ (الحج : ٧٧).
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥


الصفحة التالية
Icon