المسألة الخامسة : اعلم أن الجاهل إذا سمع الوجوه العقلية والنقلية في أنه لا بد من النية فيقول في نفسه عند تدريسه وتجارته : نويت أن أدرس لله وأتجر لله يظن أن ذلك نية وهيهات فذاك حديث نفس أو حديث لسان والنية بمعزل عن جميع ذلك إنما النية انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً. والميل إذا لم يحصل لم يقدر الإنسان على اكتسابه وهو كقول الشبعان نويت أن أشتهي الطعام، أو كقول الفارغ نويت أن أعشق، بل لا طريق إلى اكتساب الميل إلى الشيء إلا باكتساب أسبابه وليست هي إلا تحصيل العلم بما فيه من المنافع، ثم هذا العلم لا يوجب هذا الميل إلا عند خلو القلب عن سائر الشواغل، فإذا غلبت شهوة النكاح ولم يعتقد في الولد غرضاً صحيحاً لا عاجلاً ولا آجلاً، لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة فكيف ينوي الولد ؟
فثبت أن النية ليست عبارة عن القول باللسان أو بالقلب بل هي عبارة عن حصول هذا الميل، وذلك أمر معلق بالغيب فقد يتيسر في بعض الأوقات، وقد يتعذر في بعضها.
المسألة السادسة : اعلم أن نيات الناس في الطاعات أقسام : فمنهم من يكون عملهم إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار، ومنهم من يعمل لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة والعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه، كالأجير السوء ودرجته درجة البله، وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله والفكر فيه حباً لجلاله وسائر الأعمال مؤكدات له وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم صار المقربون متنعمين بالنظر إلى وجهه الكريم ونسبة شرف الالتذاذ بنعيم الجنة إلى شرف الالتذاذ بهذا المقام كنسبة نعيم الجنة إلى وجهه الكريم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥
اعلم أنه تعالى لما جمعهم في الخبر الأول فصلهم في هذه الآية، وبين قول كل فريق منهم في الآخر، وكيف ينكر كل طائفة دين الأخرى، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿لَيْسَتِ النَّصَـارَى عَلَى شَىْءٍ﴾ أي على شيء يصح ويعتد به وهذه مبالغة عظيمة وهو كقولهم : أقل من لا شيء، ونظيره قوله تعالى :﴿قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاـاةَ﴾ (المائدة : ٦٨)، فإن قيل : كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانا يثبتان الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، وذلك قول فيه فائدة ؟
قلنا : الجواب من وجهين، الأول : أنهم لما ضموا إلى ذلك القول الحسن قولاً باطلاً يحبط ثواب الأول، فكأنهم ما أتوا بذلك الحق. الثاني : أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيه، وهي ما يتصل بباب النبوات.
المسألة الثانية : روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل، وقالت النصارى لهم : نحوه وكفروا بموسى عليه السلام والتوراة.
المسألة الثالثة : اختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أهم الذين كانوا من بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام، والظاهر الحق أنه لا دليل في الظاهر عليه وإن كان الأولى أن يحمل على كل اليهود وكل النصارى بعد بعثة عيسى عليه السلام، ولا يجب لما نقل في سبب الآية / أن يهوديا خاطب النصارى بذلك فأنزل الله هذه الآية أن لا يراد بالآية سواه، إذا أمكن حمله على ظاهره وقوله :﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَـارَى عَلَى شَىْءٍ﴾ يفيد العموم فما الوجه في حمله على التخصيص ومعلوم من طريقة اليهود والنصارى أنهم منذ كانوا فهذا قول كل فريق منهما في الآخر.
أما قوله تعالى :﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَـابَ ﴾ قالوا وللحال، والكتاب للجنس. أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلوم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد لصحته، فإن التوراة مصدقة بعيسى عليه السلام، والإنجيل مصدق بموسى عليه السلام.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩


الصفحة التالية
Icon