المسألة الرابعة : الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه، وبيانه من وجهين، الأول : أنه تعالى قال :﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ فبين أن هاتين الجهتين مملوكتان له وإنما كان كذلك لأن الجهة أمر ممتد في الوهم طولاً وعرضاً وعمقاً، وكل ما كان كذلك فهو منقسم، وكل منقسم فهو مؤلف مركب، وكل ما كان كذلك فلا بد له من خالق وموجد، وهذه الدلالة عامة في الجهات كلها، أعني الفوق والتحت، فثبت بهذا أنه تعالى خالق الجهات كلها، والخالق متقدم على المخلوق لا محالة، فقد كان الباري تعالى قبل خلق العالم منزهاً عن الجهات والأحياز، فوجب أن يبقى بعد خلق العالم كذلك لا محالة لاستحالة انقلاب الحقائق والماهيات. الوجه الثاني : أنه تعالى قال :﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ ولو كان الله تعالى جسماً وله وجه جسماني لكان وجهه مختصاً بجانب معين وجهة معينة فما كان يصدق قوله :﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ فلما نص الله تعالى على ذلك علمنا أنه تعالى منزه عن الجسمية واحتج الخصم بالآية من وجهين، الأول : أن الآية تدل على ثبوت الوجه لله تعالى والوجه لا يحصل إلا من كان جسماً. الثاني : أنه تعالى وصف نفسه بكونه واسعاً، والسعة من صفة الأجسام. والجواب عن الأول : أن الوجه وإن كان في أصل اللغة عبارة عن العضو المخصوص لكنا بينا أنا لو حملناه ههنا على العضو لكذب قوله تعالى :﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ لأن الوجه لو كان محاذياً للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذياً للمغرب أيضاً، فإذن لا بد فيه من التأويل وهو من وجوه. الأول : أن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله، والمراد منها الإضافة بالخلق والإيجاد على سبيل التشريف، فقوله :﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ أي : فثم وجهه الذي وجهكم إليه لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما، والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها / فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق والإيجاد نصبه وعينه فهو قبلة. الثاني : أن يكون المراد من الوجه القصد والنية قال الشاعر :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨
استغفر الله ذنباً لست أحصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل
ونظيره قوله تعالى :﴿إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ (الأنعام : ٧٩). الثالث : أن يكون المراد منه فثم مرضاة الله، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ (الإنسان : ٩) يعني لرضوان الله، وقوله :﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه ﴾ (القصص : ٨٨) يعني ما كان لرضا الله، ووجه الاستعارة أن من أراد الذهاب إلى إنسان فإنه لا يزال يقرب من وجهه وقدامه، فكذلك من يطلب مرضاة أحد فإنه لا يزال يقرب من مرضاته، فلهذا سمي طلب الرضا بطلب وجهه. الرابع : أن الوجه صلة كقوله :﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه ﴾ ويقول الناس هذا وجه الأمر لا يريدون به شيئاً آخر غيره، إنما يريدون به أنه من ههنا ينبغي أن يقصد هذا الأمر، واعلم أن هذا التفسير صحيح في اللغة إلا أن الكلام يبقى، فإنه يقال لهذا القائل : فما معنى قوله تعالى :﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ مع أنه لا يجوز عليه المكان فلا بد من تأويله بأن المراد : فثم قبلته التي يعبد بها، أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته. والجواب عن الثاني : وهو أنه وصف نفسه بكونه واسعاً فلا شك أنه لا يمكن حمله على ظاهره وإلا لكان متجزئاً متبعضاً فيفتقر إلى الخالق، بل لا بد وأن يحمل على السعة في القدرة والملك، أو على أنه واسع العطاء والرحمة، أو على أنه واسع الإنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه، ولعل هذا الوجه بالكلام أليق، ولا يجوز حمله على السعة في العلم، وإلا لكان ذكر العليم بعده تكراراً، فأما قوله :﴿عَلِيمٌ﴾ في هذا الموضع فكالتهديد ليكون المصلي على حذر من التفريط من حيث يتصور أنه تعالى يعلم ما يخفي وما يعلن، وما يخفي على الله من شيء، فيكون متحذراً عن التساهل، ويحتمل أن يكون قوله تعالى :﴿وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أنه تعالى واسع القدرة في توفية ثواب من يقوم بالصلاة على شرطها، وتوفية عقاب من يتكاسل عنها.
المسألة الخامسة : ولى إذا أقبل، وولى إذا أدبر، وهو من الأضداد ومعناه ههنا الإقبال، وقرأ الحسن :﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا ﴾ بفتح التاء من التولي، يريد فأينما توجهوا القبلة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨
٢٢