الأول : وهو الأقوى أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة ونظيره قوله تعالى عند وصف خلق السموات والأرض :﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ﴾ (فصلت : ١١) من غير قول كان منهما لكن على سبل سرعة نفاذ قدرته في تكوينهما من غير ممانعة ومدافعة ونظيره قول العرب : قال الجدار للوتد لم تشقني ؟
قال : سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي ونظيره قوله تعالى :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ (الإسراء : ٤٤). الثاني : أنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً يحكى ذلك عن أبي الهذيل. الثالث : أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم ؛ ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَـاسِئِينَ﴾ (البقرة : ٦٥) ومن جرى مجراهم وهو قول الأصم. الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة والكل ضعيف والقوي هو الأول.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢
٢٧
اعلم أن هذا هو النوع الحادي عشر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين، ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أن الله تعالى لما حكى عن اليهود والنصارى والمشركين ما يقدح في التوحيد وهو أنه تعالى اتخذ الولد، حكى الآن عنهم ما يقدح في النبوة، وقال أكثر المفسرين ؛ هؤلاء هم مشركو العرب والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا﴾ (الإسراء : ٩٠) وقالوا :﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـاما بَلِ﴾ (الأنبياء : ٥)، وقالوا ﴿لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَـا اـاِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ﴾ (الفرقان : ٢١) هذا قول أكثر المفسرين، إلا أنه ثبت أن أهل الكتاب سألوا ذلك، والدليل عليه قوله تعالى :﴿يَسْـاَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَـابًا مِّنَ السَّمَآءِا فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى ا أَكْبَرَ مِن ذَالِكَ﴾ (النساء : ١٥٣) فإن قيل : الدليل على أن المراد مشركو العرب أنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأهل الكتاب أهل العلم، قلنا : المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي، وأهل الكتاب كانوا كذلك.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧
المسألة الثانية : تقرير هذه الشبهة التي تمسكوا بها أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء فلا بد / وأن يختار أقرب الطرق المفضية إليه وأبعدها عن الشكوك والشبهات، إذا ثبت هذا فنقول : إن الله تعالى يكلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول : يا محمد، إنه كلمك والدليل عليه قوله تعالى :﴿فَأَوْحَى ا إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى ﴾ (النجم : ١٠) فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة وأيضاً فإن كان تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية ومعجزة وهذا منهم طعن في كون القرآن آية ومعجزة، لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا : هلا يأتينا بآية ثم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله :﴿كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِم تَشَـابَهَتْ قُلُوبُهُم قَدْ بَيَّنَّا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، وحاصل هذا الجواب أنا قد أيدنا قول محمد صلى الله عليه وسلّم بالمعجزات، وبينا صحة قوله بالآيات وهي القرآن وسائر المعجزات، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت وإذا كان كذلك لم يجب إجابتها لوجوه. الأول : أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة فقد تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة، فحيث لم يكتف بها وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك للطلب من باب العناد واللجاج، فلم تكن إجابتها واجبة ونظيره قوله تعالى :﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَـاتٌ مِّن رَّبِّه ا قُلْ إِنَّمَا الايَـاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ (العنكبوت : ٥٠، ٥١) فبكتهم بما في القرآن من الدلالة الشافية. وثانيها : لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لفعلها، ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك ولذلك قال تعالى :﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (الأنفال : ٢٣). وثالثها : إنما حصل في تلك الآيات أنواع من المفساد وربما أوجب حصولها هلاكهم واستئصالهم إن استمروا بعد ذلك على التكذيب وربما كان بعضها منتهياً إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف، وربما كانت كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة، لأن الخوارق متى توالت صار انخراق العادة عادة، فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً وكل ذلك أمور لا يعلمها إلا الله علام الغيوب فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة.


الصفحة التالية
Icon