المسألة الثانية : قال الحسن : معناه أنهم يثوبون إليه في كل عام، وعن ابن عباس ومجاهد : أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه، قال الله تعالى :﴿فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ﴾ (إبراهيم : ٣٧) وقيل : مثابة أي يحجون إليه فيثابون عليه، فإن قيل : كون البيت مثابة يحصل بمجرد عودهم إليه، وذلك يحصل بفعلهم لا بفعل الله تعالى، فما معنى قوله :﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ﴾ قلنا : أما على قولنا ففعل العبد مخلوق لله تعالى فهذه الآية حجة على قولنا في هذه المسألة، وأما على قول المعتزلة فمعناه أنه تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعياً لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى، وإنما فعل الله تعالى ذلك لما فيه من منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الدنيا فلأن أهل المشرق والمغرب يجتمعون هناك، فيحصل هناك من التجارات وضروب المكاسب ما يعظم به النفع، وأيضاً فيحصل بسبب السفر إلى الحج عمارة الطريق والبلاد، ومشاهدة الأحوال المختلفة في الدنيا، وأما منافع الدين فلأن من قصد البيت رغبة منه في النسك والتقرب إلى الله تعالى، وإظهار العبودية له، والمواظبة على العمرة والطواف، وإقامة الصلاة في ذلك المسجد المكرم والاعتكاف فيه/ يستوجب بذلك ثواباً عظيماً عند الله تعالى.
المسألة الثانية : تمسك بعض أصحابنا في وجوب العمرة بقوله تعالى :﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ﴾ ووجه الاستدلال به أن قوله :﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ﴾ إخبار عن أنه تعالى جعله موصوفاً بصفة كونه مثابة للناس، لكن لا يمكن إجراء الآية على هذا المعنى لأن كونه مثابة للناس صفة تتعلق باختيار الناس، وما يتعلق باختيار الناس لا يمكن تحصيله بالجبر والإلجاء، وإذا ثبت تعذر إجراء الآية على ظاهرها وجب حمل الآية على الوجوب لأنا متى حملناه على الوجوب كان ذلك أفضى إلى صيرورته كذلك مما إذا حملناه على الندب، فثبت أن الله تعالى أوجب علينا العود إليه مرة بعد أخرى، وقد توافقنا على أن هذا الوجوب لا يتحقق فيما سوى الطواف، فوجب تحققه / في الطواف، هذا وجه الاستدلال بهذه الآية، وأكثر من تكلم في أحكام القرآن طعن في دلالة هذه الآية على هذا المطلوب، ونحن قد بينا دلالتها عليه من هذا الوجه الذي بيناه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤١
أما قوله تعالى :﴿وَأَمْنًا﴾ أي موضع أمن، ثم لا شك أن قوله :﴿جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ خبر، فتارة نتركه على ظاهره ونقول أنه خبر، وتارة نصرفه عن ظاهره ونقول أنه أمر.
أما القول الأول : فهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا﴾ (العنكبوت : ٦٧) وقوله :﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا ءَامِنًا يُجْبَى ا إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ (القصص : ٥٧) ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم، لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه، وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه، قال الله تعالى :﴿وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيه فَإِن قَـاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ (البقرة : ١٩١) فأخبر عن وقوع القتل فيه.