المسألة الثالثة : هذه الآية، تدل على أمور. أحدها : أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة، لأنه تعالى كما خصهم بالطواف دل على أن لهم به مزيد اختصاص. وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء : أن الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل. وثانيها : تدل الآية على جواز الاعتكاف في البيت. وثالثها : تدل على جواز الصلاة في البيت فرضاً كانت أو نفلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها، وهو خلاف قول مالك في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت، فإن قيل : لا نسلم دلالة الآية على ذلك، لأنه تعالى لم يقل : والركع السجود في البيت، وكما لا تدل الآية على جواز فعل الطواف في جوف البيت، وإنما دلت على فعله خارج البيت، كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجهاً إليه، قلنا : ظاهر الآية يتناول الركوع والسجود إلى البيت، سواء كان ذلك في البيت أو خارجاً عنه، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت لأن الطواف بالبيت هو أن / يطوف بالبيت، ولا يسمى طائفاً بالبيت من طاف في جوفه، والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه، لقوله تعالى :﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج : ٢٩) وأيضاً المراد لو كان التوجه إليه للصلاة، لما كان للأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه، إذا كان حاضر والبيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجه إليه، واحتج مالك بقوله تعالى :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجهاً إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه. والجواب : أن المتوجه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كل المسجد، بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه ومن كان داخل البيت فهو كذلك فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية. ورابعها : أن قوله :﴿لِلطَّآئِفِينَ﴾ يتناول مطلق الطواف سواء كان منصوصاً عليه في كتاب الله تعالى، كقوله تعالى :﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ أو ثبت حكمه بالسنة، أو كان من المندوبات.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤١
٤٧
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من أحوال إبراهيم عليه السلام التي حكاها الله تعالى ههنا، قال القاضي : في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله :﴿رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَدًا ءَامِنًا﴾ لا يمكن إلا بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله :﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاه مُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ (البقرة : ١٢٨) وإن كان متأخراً في التلاوة فهو متقدم في المعنى، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الآية دعاء إبراهيم للمؤمنين من سكان مكة بالأمن والتوسعة بما يجلب إلى مكة لأنها بلد لا زرع ولا غرس فيه، فلولا الأمن لم يجلب إليها من النواحي وتعذر العيش فيها. ثم إن الله تعالى أجاب دعاءه وجعله آمناً من الآفات، فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك ؟
الجواب : لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر.
السؤال الثاني : المطلوب من الله تعالى هو أن يجعل البلد آمناً كثير الخصب، وهذا مما يتعلق / بمنافع الدنيا فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها.
والجواب عنه من وجوه، أحدها : أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمناً وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى، وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك. وثانيها : أنه تعالى جعله مثابة للناس والناس إنما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة. وثالثها : لا يبعد أن يكون الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة والمواقف المكرمة فيكون الأمن والخصب سبب اتصاله في تلك الطاعة.
المسألة الثانية :﴿بَلَدًا ءَامِنًا﴾ يحتمل وجهين. أحدهما : مأمون فيه كقوله تعالى :﴿فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ (القارعة : ٧) أي مرضية. والثاني : أن يكون المراد أهل البلد كقوله :﴿وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ﴾ (يوسف : ٨٢) أي أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧


الصفحة التالية
Icon