المسألة الثانية : قوله :(أعوذ بالله) لفظه الخبر ومعناه الدعاء، والتقدير : اللهم أعذني، ألا ترى أنه قال :(وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) كقوله :"أستغفر الله" أي اللهم أغفر لي، والدليل عليه أن قوله :(أعوذ بالله) أخبار عن فعله، وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه الله، فما السبب في أنه قال :"أعوذ بالله" ولم يقل أعذني ؟
والجواب أن بين الرب وبين العبد عهداً كما قال تعالى :﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَـاهَدتُّمْ﴾ وقال :﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ فكان العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث قلت :"أعوذ بالله" فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول : إني أعيذك من الشيطان الرجيم.
المسألة ج : أعوذ فعل مضارع، وهو يصلح للحال والاستقبال، فهل هو حقيقة فيهما ؟
والحق أنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال، وإنما يختص به بحرف السين وسوف.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
د) لم وقع الاشتراك بين الحاضر والمستقبل، ولم يقع بين الحاضر والماضي ؟
(هـ) كيف المشابهة بين المضارع وبين الاسم.
(و) كيف العامل فيه، ولا شك أنه معمول فما هو.
(ز) قوله :(أعوذ) يدل على أن العبد مستعيذ في الحال وفي كل المستقبل، وهو الكمال، فهل يدل على أن هذه الاستعاذة باقية في الجنة.
(ح) قوله :(أعوذ) حكاية عن النفس، ولا بدّ من الأربعة المذكورة في قوله :(أتين).
أما المباحث العقلية المتعلقة بالباء في قوله أعوذ بالله فهي كثيرة (أ) الباء في قوله :"بالله" باء الإلصاق وفيه مسائل : ـ
المسألة الأولى : البصريون يسمونه باء الإلصاق، والكوفيون يسمونه باء الآلة، ويسميه قوم باء التضمين، واعلم أن حاصل الكلام أن هذه الباء متعلقة بفعل لا محالة، والفائدة فيه أنه لا يمكن إلصاق ذلك الفعل بنفسه إلا بواسطة الشيء الذي دخل عليه، هذا الباء فهو باء الإلصاق لكونه سبباً للإلصاق، وباء الآلة لكونه داخلاً على الشيء الذي هو آلة.
المسألة الثانية : اتفقوا على أنه لا بدّ فيه من إضمار فعل، فإنك إذا قلت :"بالقلم" لم يكن ذلك كلاماً مفيداً، بل لا بدّ وأن تقول :"كتبت بالقلم" وذلك يدل على أن هذا الحرف متعلق بمضمر، ونظيره قوله :"بالله لأفعلن" ومعناه أحلف بالله لأفعلن، فحذف أحلف لدلالة الكلام عليه، فكذا ههنا، ويقول الرجل لمن يستأذنه في سفره : على اسم الله أي سر على اسم الله.
المسألة الثالثة : لما ثبت أنه لا بدّ من الإضمار فنقول : الحذف في هذا المقام أفصح، والسبب فيه أنه لو وقع التصريح بذلك المضمر لاختص قوله :"أعوذ بالله" بذلك الحكم المعين أما عند الحذف فإنه يذهب الوهم كل مذهب، ويقع في الخاطر أن جميع المهمات، لا تتم إلا بواسطة الاستعاذة بالله، وإلا عند الابتداء باسم الله، ونظيره أنه قال :"الله أكبر" ولم يقل أنه أكبر من الشيء الفلاني لأجل ما ذكرناه من إفادة العموم فكذا هنا.
المسألة الرابعة : قال سيبويه لم يكن لهذه الباء عمل إلا الكسر فكسرت لهذا السبب، فإن قيل : كاف التشبيه ليس لها عمل إلا الكسر ثم إنها ليست مكسورة بل مفتوحة، قلنا : كاف التشبيه قائم مقام الاسم، وهو في العمل ضعيف، أما الحرف فلا وجود له إلا بحسب هذا الأثر، فكان فيه كلاماً قوياً.
المسألة الخامسة : الباء قد تكون أصلية كقوله تعالى :﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف : ٩) وقد تكون زائدة وهي على أربعة أوجه : أحدها : للإلصاق وهي كقوله :﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ﴾ وقوله :(بسم الله) وثانيها : للتبعيض عند الشافعي رضي الله عنه، وثالثها : لتأكيد النفي كقوله تعالى :﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (فصلت : ٤٦) ورابعها : للتعدية كقوله تعالى :﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ أي أذهب نورهم، وخامسها : الباء بمعنى في قال :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
حل بأعدائك ما حل بي
أي : حل في أعدائك، وأما باء القسم، وهو قوله :"بالله" فهو من جنس باء الإلصاق.


الصفحة التالية
Icon