المسألة الأولى : احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله :﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد، أو الاستسلام والانقياد، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة : وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلا خلق ذلك فيهما، فإن الجعل عبارة عن الخلق، قال الله تعالى :﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ ﴾ (الأنعام : ١) فدل هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى، فإن قيل : هذه الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي أنهما وقت السؤال غير مسلمين، إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل وإنه باطل، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين، ولأن صدور هذا الدعاء منهما لا يصلح إلا بعد أن كانا / مسلمين، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسك بها، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد، بل له معانٍ أخر سوى الخلق. أحدها : جعل بمعنى صير، قال الله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ (الفرقان : ٤٧). وثانيها : جعل بمعنى وهب، نقول : جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الفرس. وثالثها : جعل بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى :﴿وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا ﴾ (الزخرف : ١٩)، وقال :﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ﴾ (الأنعام : ١٠). ورابعها : جعله كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً﴾ (الأنبياء : ٧٣) يعني أمرناهم بالاقتداء بهم، وقال :﴿إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ (البقرة : ١٢٤) فهو بالأمر. وخامسها : أن يجعله بمعنى التعليم كقوله : جعلته كاتباً وشاعراً إذا علمته ذلك. وسادسها : البيان والدلالة تقول : جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت من الحجة ما يبين بطلان ذلك، إذا ثبت ذلك فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد وصفهما بالإسلام والحكم لهما بذلك كما يقال : جعلني فلان لصاً وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك، سلمنا أن المراد من الجعل الخلق، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام وتوفيقهما لذلك فمن وفقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها فقد جعله مسلماً له، ومثاله : من يؤدب ابنه حتى يصير أديباً فيجوز أن يقال : صيرتك أديباً وجعلتك أديباً، وفي خلاف ذلك يقال : جعل ابنه لصاً محتالاً، سلمنا أن ظاهر الآية يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام، لكنه على خلاف الدلائل العقلية فوجب ترك القول به، وإنما قلنا : أنه على خلاف الدلائل العقلية لأنه لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما استحق العبد به مدحاً ولا ذماً، ولا ثواباً ولا عقاباً، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد. والجواب : قوله : الآية متروكة الظاهر، قلنا : لا نسلم وبيانه من وجوه. الأول : أن الإسلام عرض قائم بالقلب وأنه لا يبقى زمانين فقوله :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠
﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي اخلق هذا العرض فينافي الزمان المستقبل دائماً، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال. الثاني : أن يكون المراد منه الزيادة في الإسلام كقوله :﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا مَّعَ إِيمَـانِهِمْ ﴾ (الفتح : ٤)، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ (محمد : ١٧) وقال إبراهيم :﴿وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى ﴾ (البقرة : ٢٦) فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال. الثالث : أن الإسلام إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد، فأما إذا أضيف بحرف اللام كقوله :﴿مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ فالمراد الاستسلام له والانقياد والرضا بكل ما قدر وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال، فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر، قوله : يحمل الجعل على الحكم بذلك، قلنا : هذا مدفوع من وجوه :