السؤال الأول : قد بينا أن قوله :﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ﴾ كما يدل على أن في ذريته من يكون ظالماً فكذلك يوجد فيهم من لا يكون ظالماً، فاذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى ؟
الجواب : تلك الدلالة ما كانت قاطعة، والشفيق بسوء الظن مولع.
السؤال الثاني : لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجري مجرى البخل في الدعاء ؟
والجواب : الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى :﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ (التحريم : ٦) ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وتابعهم على الخيرات، ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون إلى سداد من وراءهم.
السؤال الثالث : الظاهر أن الله تعالى لو رد هذا الدعاء لصرح بذلك الرد فلما لم يصرح بالرد علمنا أنه أجابه إليه، وحينئذ يتوجه الإشكال، فإن في زمان أجداد محمد صلى الله عليه وسلّم لم يكن أحد من العرب مسلماً، ولم يكن أحد سوى العرب من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
والجواب : قال القفال : أنه لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، ولم تزل الرسل من ذرية إبراهيم، وقد كان في الجاهلية : زيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعامر بن الظرب كانوا على دين الإسلام يقرون بالإبداء والإعادة، والثواب والعقاب، ويوحدون الله تعالى، ولا يأكلون الميتة، ولا يعبدون الأوثان.
أما قوله تعالى :﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في ﴿أَرِنَا﴾ قولان، الأول : معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعوا الناس إلى حجه، فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم، قال الله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ (الفرقان : ٤٥)، ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـابِ الْفِيلِ﴾ (الفيل : ١). الثاني : أظهرها لأعيننا حتى نراها. قال الحسن : إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلها، حتى بلغ عرفات، فقال : يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك ؟
قال : نعم فسميت عرفات فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمره جبريل عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل، فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي الحصيات.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠
وههنا قول ثالث وهو أن المراد العلم والرؤية معاً. وهو قول القاضي لأن الحج لايتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً وهذا ضعيف، لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معاً وأنه جائز، فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان، فمن قال بالقول الثاني قال : إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها، ومن قال بالأول قال : إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف.
المسألة الثانية : النسك هو التعبد، يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكاً والذبيحة نسيكة، وسمي أعمال الحج مناسك. قال عليه السلام :"خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى : مناسك أيضاً، ويقال : المنسك بفتح السين بمعنى الفعل، وبكسر السين بمعنى المواضع، كالمسجد والمشرق والمغرب، قال الله تعالى :﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوه ﴾ (الحج : ٦٧) قرىء بالفتح والكسر، وظاهر الكلام يدل على الفعل، وكذلك قوله عليه السلام :"خذوا عني مناسككم" أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد : خذوا عني مواضع نسككم إذا عرفت هذا فنقول : إن حملنا المناسك على مناسك الحج، فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال، وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط، وهو خطأ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبد، ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكاً، وهو كونه عملاً من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال، فوجب دخول الكل فيه وأن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى، واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاماً لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فقوله :﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي علمنا كيف نعبدك، وأين نعبدك وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه.


الصفحة التالية
Icon