النوع الثالث : قوله :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ﴾ واعلم أنه لا شبهة في أن قوله :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا﴾ يريد من أراد بقوله :﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد صلى الله عليه وسلّم، فعطف عليه بقوله تعالى :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ﴾ وهذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين. أحدهما : أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام. والثاني : أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه. أحدها : ليكون محلهم ورتبتهم في العز والدين أعظم، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريته، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها. وثانيها : أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته. وثالثها : أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم، إذا ثبت هذا فنقول : إذا كان مراد إبراهيم عليه السلام عمارة الدين في الحال وفي المستقبل، وكان قد غلب على ظنه أن ذلك إنما يتم ويكمل بأن يكون القوم من ذريته حسن منه أن يريد ذلك ليجتمع له بذلك نهاية المراد في الدين، وينضاف إليه السرور العظيم بأن يكون هذا الأمر في ذريته لأن لا عز ولا شرف أعلى من هذه الرتبة. وأما إن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلّم فيدل عليه وجوه. أحدها : إجماع المفسرين وهو حجة. وثانيها : ما روي عنه عليه السلام أنه قال :"أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى" وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في سورة الصف من قوله :﴿وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنا بَعْدِى اسْمُه ا أَحْمَدُ ﴾ (الصف : ٦). وثالثها : أن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين يكونون بها وبما حولها ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة وما حولها إلا محمداً صلى الله عليه وسلّم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠
وههنا سؤال وهو أنه يقال : ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد صلى الله عليه وسلّم في باب الصلاة حيث يقال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ؟
وأجابوا عنه من وجوه، أولها : أن إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد عليه السلام حيث قال :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِكَ﴾ فلما وجب للخليل على الحبيب حق دعائه له / قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة. وثانيها : أن إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله :﴿وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ﴾ (الشعراء : ٨٤) يعني ابق لي ثناء حسناً في أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته. وثالثها : أن إبراهيم كان أب الملة لقوله :﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ (الحج : ٧٨) ومحمد كان أب الرحمة، وفي قراءة ابن مسعود :(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) وقال في قصته :﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة : ١٢٨) وقال عليه السلام :"إنما أنا لكم مثل الوالد"، يعني في الرأفة والرحمة، فلما وجب لكل واحد منهم حق الأبوة من وجه قرب بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة. ورابعها : أن إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج :﴿وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ (الحج : ٢٧) وكان محمد عليه السلام منادي الدين :﴿سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلايمَـانِ﴾ (آل عمران : ١٩٣) فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠