وأصدق دلالة منه قوله تعالى :﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِه يُشْرِكُونَ﴾ (الروم : ٣٥) فجعل دلالة البرهان كلاماً، ومن الناس من قال : هذا الأمر كان بعد النبوة، وقوله :﴿أَسْلِمْ ﴾ ليس المراد / منه الإسلام والإيمان بل أمور أخر. أحدها : الانقياد لأوامر الله تعالى، والمسارعة إلى تلقيها بالقبول، وترك الإعراض بالقلب واللسان، وهو المراد من قوله :﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ (البقرة : ١٢٨). وثانيها : قال الأصم :(أسلم) أي أخلص عبادتك واجعلها سليمة من الشرك وملاحظة الأغيار. وثالثها : استقم على الإسلام واثبت على التوحيد كقوله تعالى :﴿فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ﴾ (محمد : ١٩). ورابعها : أن الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح، وأن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله :(أسلم).
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٢
٦٣
اعلم أن هذا هو النوع السادس من الأمور المستحسنة التي حكاها الله عن إبراهيم وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر (وأوصى) بالألف وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام والباقون بغير ألف بالتشديد وكذلك هو في مصاحفهم والمعنى واحد إلا أن في (وصى) دليل مبالغة وتكثير.
المسألة الثانية : الضمير في (بها) إلى أي شيء يعود ؟
فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى قوله :﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ (البقرة : ١٣١) على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله :﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً﴾ (الزخرف : ٢٨) إلى قوله :﴿إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِى فَطَرَنِى﴾ (الزخرف : ٢٦) وقوله :﴿كَلِمَةَا بَاقِيَةً﴾ دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة. القول الثاني : أنه عائد إلى الملة في قوله :﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ﴾ (البقرة : ١٣٠) قال القاضي وهذا القول أولى من الأول من وجهين. الأول : أن ذلك غير مصرح به ورد الإضمار إلى المصرح بذكره إذا أمكن أولى من رده إلى المدلول والمفهوم. الثاني : أن الملة أجمع من تلك الكلمة ومعلوم أنه ما وصى ولده إلا بما يجمع فيهم الفلاح والفوز بالآخرة، والشهادة وحدها لا تقتضي ذلك.
المسألة الثالثة : اعلم أن هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين. أحدها : أنه تعالى لم يقل وأمر إبراهيم بنيه بل قال : وصاهم ولفظ الوصية أوكد من الأمر، لأن الوصية عند الخوف من الموت، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم، فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتماً بهذا الأمر متشدداً فيه، كان القول إلى قبوله أقرب. وثانيها : أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم، فلما خصهم بذلك في آخر عمره، علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره. وثالثها : أنه / عمم بهذه الوصية جميع بنيه ولم يخص أحداً منهم بهذه الوصية، وذلك أيضاً يدل على شدة الاهتمام. ورابعها : أنه عليه السلام أطلق هذه الوصية غير مقيدة بزمان معين ومكان معين، ثم زجرهم أبلغ الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين، وذلك يدل أيضاً على شدة الاهتمام بهذا الأمر. وخامسها : أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى، وهذا يدل أيضاً على شدة الاهتمال بهذا الأمر، ولما كان إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة، ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر، عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام، وأجراها بالرعاية، فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية، وإلا فمعلوم من حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبداً إلى الإسلام والدين.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٣
أما قوله :﴿وَيَعْقُوبَ﴾ ففيه قولان : الأول : وهو الأشهر أنه معطوف على إبراهيم، والمعنى أنه وصى كوصية إبراهيم. والثاني : قرىء ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ بالنصب عطفاً على بنيه، ومعناه : وصى إبراهيم بنيه، ونافلته يعقوب، أما قوله :﴿أَوْ بَنِى ﴾ فهو على إضمار القول عند البصريين، وعند الكوفيين يتعلق بوصي لأنه في معنى القول، وفي قراءة أبي وابن مسعود، أن يا بني.
أما قوله :﴿اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ فالمراد أنه تعالى استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره.
أما قوله :﴿فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ فالمراد بعثهم على الإسلام/ وذلك لأن الرجل إذا لم يأمن الموت في كل طرفة عين، ثم إنه أمر بأن يأتي بالشيء قبل الموت صار مأموراً به في كل حال، لأنه يخشى إن لم يبادر إليه أن تعاجله المنية فيفوته الظفر بالنجاة ويخاف الهلاك فيصير مدخلاً نفسه في الخطر والغرور.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٣
٦٤