الفريق الثاني من المعتزلة : وهم الذين يقولون : القدرة مع الداعي لا توجب الفعل، بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وهذا الفعل والكسب، قالت المعتزلة للأشعري : إذا كان مقدور العبد واقعاً بخلق الله تعالى، فإذا خلقه فيه : استحال من العبد أن لا يتصف في ذلك الوقت بذلك الفعل، وإذا لم يخلقه فيه : استحال منه في ذلك الوقت أن يتصف به. وإذا كان كذلك لم يكن ألبتة متمكناً من الفعل والترك، ولا معنى للقادر إلا ذلك، فالعبد ألبتة غير قادر، وأيضاً فهذا الذي هو مكتسب العبد. إما أن يكون واقعاً بقدرة الله، أو لم يقع ألبتة بقدرة الله، أو وقع بالقدرتين معاً، فإن وقع بقدرة الله تعالى لم يكن العبد فيه مؤثراً فكيف يكون مكتسباً له ؟
وإن وقع بقدرة العبد فهذا هو المطلوب. وإن وقع بالقدرتين معاً فهذا محال، لأن قدرة الله تعالى مستقلة بالإيقاع، فعند تعلق قدرة الله تعالى به، فكيف يبقى لقدرة العبد فيه أثر، وأما قول الباقلاني فضعيف، لأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فنفس المنهي عنه قد خلقه الله تعالى فيه، وهذا هو عين تكليف ما لا يطاق، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب، وأما قول الأسفرايني فضعيف لما بينا أن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير، فلا يبقى لقدرة العبد معها أثر ألبتة، قال أهل السنة : كون العبد مستقلاً بالإيجاد والخلق محال لوجوه. أولها : أن العبد لو كان موجداً لأفعاله، لكان عالماً بتفاصيل فعله، وهو غير عالم بتلك التفاصيل، فهو غير موجد لها. وثانيها : لو كان العبد موجداً لفعل نفسه ؛ لما وقع إلا ما أراده العبد، وليس كذلك، لأن الكافر يقصد تحصيل العلم فلا يحصل إلا الجهل. وثانيها : لو كان العبد موجداً لفعل نفسه لكان كونه موجداً لذلك الفعل زائداً على ذات ذلك الفعل، وذات القدرة لأنه يمكننا أن نعقل ذات الفعل وذات القدرة مع الذهول عن كون العبد موجداً له، والمعقول غير المغفول عنه، ثم تلك الموجدية حادثة، فإن كان حدوثها بالعبد لزم افتقارها إلى موجدية أخرى، ولزم التسلسل وهو محال، وإن كان الله / تعالى والأثر واجب الحصول عند حصول الموجدية فيلزم استناد الفعل إلى الله تعالى، ولا يلزمنا ذلك في موجدية الله تعالى لأنه قديم، فكانت موجديته قديمة، فلا يلزم افتقار تلك الموجودية إلى موجودية أخرى.
هذا ملخص الكلام من الجانبين والمنازعات بين الفريقن في الألفاظ والمعاني كثيرة والله الهادي.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٤
٧٠
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل التي تقدمت صحة دين الإسلام حكى بعدها أنواعاً من شبه المخالفين الطاعنين في الإسلام.
الشبهة الأولى : حكى عنهم أنهم قالوا :﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى تَهْتَدُوا ﴾ ولم يذكروا في تقرير ذلك شبهة، بل أصروا على التقليد، فأجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه. الأول : ذكر جواباً إلزامياً وهو قوله :﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاه مَ حَنِيفًا ﴾ وتقرير هذا الجواب أنه إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم، لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف إن كان المعول في الدين على التقليد، فكأنه سبحانه قال : إن كان المعول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المعول على التقليد فالرجوع إلى دين إبراهيم عليه السلام وترك اليهودية والنصرانية أولى.
فإن قيل : أليس أن كل واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السلام.
قلنا : لما ثبت أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد، وثبت أن النصارى يقولون بالتثليث، واليهود يقولون بالتشبيه، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه السلام، وأن محمداً عليه السلام لما دعا إلى التوحيد، كان هو على دين إبراهيم.