المسألة الأولى : اختلفوا في تلك المحاجة وذكروا وجوهاً. أحدها : أن ذلك كان قولهم أنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم والمعنى : أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسول من العرب لا منكم وتقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم، وترونكم أحق بالنبوة منا. وثانيها : قولهم : نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان. وثالثها : قولهم ؛ ﴿نَحْنُ أَبْنَـا ؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـا ؤُه ﴾ وقولهم :﴿لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى ﴾ (البقرة : ١١١) وقولهم :﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى تَهْتَدُوا ﴾ (البقرة : ١٣٥) عن الحسن. ورابعها :﴿أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ﴾ أي : أتحاجوننا في دين الله.
المسألة الثانية : هذه المحاجة كانت مع من ؟
ذكروا فيه وجوهاً. أحدها : أنه خطاب لليهود / والنصارى. وثانيها : أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا :﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف : ٣١) والعرب كانوا مقرين بالخالق. وثالثها : أنه خطاب مع الكل، والقول الأول أليق بنظم الآية.
أما قوله :﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ ففيه وجهان. الأول : أنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها، فلا تعترضوا على ربكم، فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه، بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له. الثاني : أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلا بالعبودية، وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم، فلم ترجحون أنفسكم علينا، بل الترجيح من جانبنا لأنا مخلصون له في العبودية، ولستم كذلك، وهو المراد بقوله :﴿وَنَحْنُ لَه ﴾ وهذا التأويل أقرب.
أما قوله تعالى :﴿وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ﴾ فالمراد منه النصيحة في الدين كأنه تعالى قال لنبيه : قل لهم هذا القول على وجه الشفقة والنصيحة، أي لا يرجع إلى من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر وإنما المراد نصحكم وإرشادكم إلى الأصلح، وبالجملة فالإنسان إنما يكون مقبول القول إذا كان خالياً عن الأغراض الدنيوية، فإذا كان لشيء من الأغراض لم ينجع قوله في القلب ألبتة فهذا هو المراد فيكون فيه من الردع والزجر ما يبعث على النظر وتحرك الطباع على الاستدلال وقبول الحق، وأما معنى الإخلاص فقد تقدم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٦
٧٧
اعلم أن في الآية مسألتين :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم :﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ بالتاء على المخاطبة كأنه قال : أتحاجوننا أم تقولون، والباقون بالياء على أنه إخبار عن اليهود والنصارى فعلى الأول يحتمل أن تكون (أم) متصلة وتقديره : بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا، أبالتوحيد فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون ؟
وأن تكون منقطعة بمعنى : بل أتقولون والهمزة للإنكار أيضاً، وعلى الثاني تكون منقطعة لانقطاع معناه بمعنى الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول، كأنه قيل : أتقولون إن الأنبياء كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى.
المسألة الثانية : إنما أنكر الله تعالى ذلك القول عليهم لوجوه. أحدها : لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم ثبتت نبوته بسائر المعجزات، وقد أخبر عن كذبهم في ذلك فثبت لا محالة كذبهم فيه. وثانيها : شهادة التوراة والإنجيل على أن الأنبياء كانوا على التوحيد والحنيفية. وثالثها : أن التوراة والإنجيل أنزلا بعدهم. ورابعها : أنهم ادعوا ذلك من غير برهان فوبخهم الله تعالى على الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار والغرض منه الزجر والتوبيخ وأن يقرر الله في نفوسهم أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون.
أما قوله تعالى :﴿قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه ﴾ فمعناه أن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلّم أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية. فإن قيل : إنما يقال هذا فيمن لا يعلم وهم علموه وكتموه فكيف يصح الكلام ؟
قلنا : من قال : إنهم كانوا على ظن وتوهم فالكلام ظاهر ومن قال : علموا وجحدوا فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم.


الصفحة التالية
Icon