المسألة الأولى : الكاف في ﴿كَذَالِكَ﴾ كاف التشبيه، والمشبه به أي شيء هو ؟
وفيه وجوه. أحدها : أنه راجع إلى معنى يهدي، أي كما أنعمنا عليكم بالهداية، كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطاً. وثانيها : قول أبي مسلم تقريره كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وكذلك جعلناكم / أمة وسطاً. وثالثها : أنه عائد إلى ما تقدم من قوله في حق إبراهيم عليه السلام :﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـاهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ (البقرة : ١٣٠) أي فكما اصطفيناه في الدنيا فكذلك جعلناكم أمة وسطاً. ورابعها : يحتمل عندي أن يكون التقدير :﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ (البقرة : ١١٥) فهذه الجهات بعد استوائها في كونها ملكاً لله وملكاً له، خص بعضها بمزيد التشريف والتكريم بأن جعله قبلة فضلاً منه وإحساناً فكذلك العباد كلهم مشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً. وخامسها : أنه قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً كقوله تعالى :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر : ١) ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من شاء وإذلال من شاء فقوله :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ﴾ أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً.
المسألة الثانية : اعلم أنه إذا كان الوسط اسماً حركت الوسط كقوله :﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ والظرف مخفف تقول : جلست وسط القوم، واختلفوا في تفسير الوسط وذكروا أمور. أحدها : أن الوسط هو العدل والدليل عليه الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى، أما الآية فقوله تعالى :﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ (القلم : ٢٨) أي أعدلهم، وأما الخبر فما روى القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم :"أمة وسطاً قال عدلاً" وقال عليه الصلاة والسلام :"خير الأمور أوسطها" أي أعدلها، وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلّم أوسط قريش نسباً، وقال عليه الصلاة والسلام :"عليكم بالنمط الأوسط" وأما الشعر فقول زهير :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٣
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
وأما النقل فقال الجوهري في "الصحاح" :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي عدلاً وهو الذي قاله الأخفش والخليل وقطرب، وأما المعنى فمن وجوه. أحدها : أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين فكان معتدلاً فاضلاً. وثانيها : إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين. وثالثها : لا شك أن المراد بقوله :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفاً ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله :(وسطاً) ما يتعلق بالمدح في باب الدين، ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً، فوجب أن يكون المراد في الوسط العدالة. ورابعها : أن أعدل بقاع الشيء وسطه، لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة.
القول الثاني : أن الوسط من كل شيء خياره قالوا : وهذا التفسير أولى من الأول لوجوه : الأول : أن لفظ الوسط يستعمل في الجمادات قال صاحب "الكشاف" : اكتريت جملاً من أعرابي بمكة للحج فقال : أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات فكان هذا التفسير أولى. الثاني : أنه مطابق لقوله تعالى :﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران : ١١٠).
القول الثالث : أن الرجل إذا قال : فلان أوسطنا نسباً فالمعنى أنه أكثر فضلاً وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة، وأصل هذا أن الاتباع يحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى.
القول الرابع : يجوز أن يكونوا وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابناً وإلهاً ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه.
واعلم أن هذه الأقوال متقاربة غير متنافية والله أعلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٣


الصفحة التالية
Icon