القول الثاني : وهو قول ابن زيد أن الله تعالى إذا علم أن الصلاح في نقلكم من بيت المقدس إلى الكعبة فلو أقركم على الصلاة إلى بيت المقدس كان ذلك إضاعة عنه لصلاتكم لأنها تكون على هذا التقدير خالية عن المصالح فتكون ضائعة والله تعالى لا يفعل ذلك.
القول الثالث : أنه تعالى لما ذكر ما عليهم من المشقة في هذا التحويل عقبه بذكر ما لهم عنده من الثواب وأنه لا يضيع ما عملوه وهذا قول الحسن.
القول الرابع : كأنه تعالى قال : وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا ولو كفروا لضاع إيمانهم فقال :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ فلا جرم وفقكم لقبول هذا التكليف وأعانكم عليه.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ خطاب مع من ؟
على قولين : الأول : أنه مع المؤمنين، وذكر القفال على هذا القول وجوهاً أربعة. الأول : أن الله خاطب به المؤمنين الذين كانوا موجودين حينئذ، وذلك جواب عما سألوه من قبل. الثاني : أنهم سألوا عمن مات قبل نسخ القبلة فأجابهم الله تعالى بقوله :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ أي وإذا كان إيمانكم الماضي قبل النسخ لا يضيعه الله فكذلك إيمان من مات قبل النسخ. الثالث : يجوز أن يكون الأحياء قد توهموا أن ذلك لما نسخ بطل، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفارة لما سلف واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ولم يأتوا بما يكفر ما سلف فقيل :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ والمراد أهل ملتكم كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم :﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ (البقرة : ٧٢)، ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ (البقرة : ٥٠). الرابع : يجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً، فإنهم اشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم، وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين فقيل : إيمانكم للأحياء والأموات، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب فيقولوا : كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم.
القول الثاني : قول أبي مسلم، وهو أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب، والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ، وإنما اختار أبو مسلم هذا القول لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٣
المسألة الثالثة : استدلت المعتزلة بقوله :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات فإنه تعالى أراد بالإيمان ههنا الصلاة. والجواب : لا نسلم أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة، بل المراد منه التصديق والإقرار فكأنه تعالى قال : أنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة سلمنا أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة ولكن الصلاة أعظم الإيمان وأشرف نتائجه وفوائده فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الإستعارة من هذه الجهة.
المسألة الرابعة : قوله :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ أي لا يضيع ثواب إيمانكم لأن الإيمان قد انقضى وفنى وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته إلا أن استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه فصح حفظه وإضاعته وهو كقوله تعالى :﴿أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم﴾ (آل عمران : ١٩٥).
أما قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال رحمه الله : الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله :﴿وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ﴾ (النور : ٢) أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما، وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام، وقد سمى الله تعالى المطر رحمة فقال :﴿وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه ﴾ (الأعراف : ٥٧) لأنه إفضال من الله وإنعام، فذكر الله تعالى الرأفة أولاً بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم ويخفف المحن عنهم، ثم ذكر الرحمة لتكون أعم وأشمل، ولا تختص رحمته بذلك النوع بل هو رحيم من حيث أنه دافع للمضار التي هي الرأفة وجالب للمنافع معاً.
المسألة الثانية : ذكروا في وجه تعلق هذين الاسمين بما قبلهما وجوهاً. أحدها : أنه تعالى لما أخبر أنه لا يضيع إيمانهم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحج : ٦٥) والرؤف الرحيم كيف يتصور منه هذه الإضاعة. وثانيها : أنه لرؤف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم وأنفع في الدين والدنيا. وثالثها : قال :﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه ﴾ فكأنه تعالى قال : وإنما هداهم الله ولأنه رؤف رحيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٣