المسألة الثانية : قوله :﴿تَرْضَـاهَا ﴾ فيه وجوه. أحدها : ترضاها تحبها وتميل إليها، لأن الكعبة / كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع، قال القاضي : هذا لا يجوز فإنه من المحال أن يقول الله تعالى : فلنولينك قبلة يميل طبعك إليها، لأن ذلك يقدح في حكمته تعالى فيما يكلف، ويقدح في حال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يريده في حال التكليف، وهذا الاعتراض ضعيف لأن الطعن إنما يتوجه لو قال الله تعالى : أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها بمجرد ميل طبعك فأما لو قال : أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها لأجل أن الحكمة والمصلحة وافقت ميل طبعك فأي ضرر يلزم منه وقال عليه الصلاة والسلام :"وجعلت قرة عيني في الصلاة" فكان طبعه يميل إلى الصلاة مع أن المصلحة كانت موافقة لذلك. وثانيها :﴿قِبْلَةً تَرْضَـاهَا ﴾ أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية. وثالثها : قال الأصم : أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط، كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا، فلما تحولت القبلة ارتدوا. ورابعها :﴿تَرْضَـاهَا ﴾ أي ترضى عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام، فمن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها أو مال يكتسبه.
أما قوله تعالى :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الوجه ههنا جملة بدن الإنسان لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء لأن الوجه أشرف الأعضاء ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض، فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه.
المسألة الثانية : قال أهل اللغة : الشطر اسم مشترك يقع على معنيين. أحدهما : النصف يقال : شطرت الشيء أي جعلته نصفين، ويقال في المثل أجلب جلباً لك شطره أي نصفه. والثاني : نحوه وتلقاءه وجهته، واستشهد الشافعي رضي الله عنه في كتاب "الرسالة" على هذا بأبيات أربعة : قال خقاف بن ندبة :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٤
ألا من مبلغ عمراً رسولا
وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقال ساعدة بن جؤبة :
أقول لأم زنباع : أقيمي
صدور العيس شطر بني تميم
وقال لقيط الأيادي :
وقد أظلكم من شطر شعركم
هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال آخر :
إن العسير بها داء مخامرها
فشطرها بصر العينين مسحور
قال الشافعي رضي الله عنه : يريد تلقاءها بصر العينين مسحور، إذا عرفت هذا فنقول : في الآية قولان :
الأول : وهو قول جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين، واختيار الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة : أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه وجانبه، قرأ أبي بن كعب / تلقاء المسجد الحرام.
القول الثاني : وهو قول الجبائي واختيار القاضي أن المراد من الشطر ههنا : وسط المسجد ومنتصفه لأن الشطر هو النصف، والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب، فلما كان الواجب هو التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة واقعة في نصف المسجد حسن منه تعالى أن يقول :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ يعني النصف من كل جهة، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة، قال القاضي : ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان. الأول : أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد، ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لا تصح صلاته. الثاني : أنا لو فسرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة لأنك إذا قلت فول وجهك شطر المسجد الحرام فقد حصلت الفائدة المطلوبة، أما لو فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة، فإنه لو قيل : فول وجهك المسجد الحرام لا يفهم منه وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو موضع الكعبة، فلما قيل :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ حصلت هذه الفائدة الزائدة، فكان حمل هذا اللفظ على هذا المحمل أولى فإن قيل : لو حملنا الشطر على الجانب يبقى لذكر الشطر فائدة زائدة، وهي أنه لو قال : فول وجهك المسجد الحرام، لزم تكليف ما لا يطاق، لأن من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكنه أن يولي وجهه المسجد، أما إذا قال : فول وجهك شطر المسجد الحرام، أي جانب المسجد، دخل فيه الحاضرون والغائبون قلنا : هذه الفائدة مستفادة من قوله :﴿مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه ﴾
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٤