وأما الخبر فما روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة وقال : هذه القبلة وهذه الكلمة تفيد الحصر فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن القبلة هي الكعبة، وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلّم في تعظيم الكعبة أمر بلغ مبلغ التواتر والصلاة من أعظم شعائر الدين وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة بما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة فوجب أن يكون مشورعاً ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مكشوك، والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة، واحتج أبو حنيفة بأمور. الأول : ظاهر هذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب على المكلف أن يولي وجهه إلى جانبه فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه فقد أتى بما أمر به سواء كان مستقبلاً للكعبة أم لا فوجب أن يخرج عن العهدة، وأما الخبر فما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال :"ما بين المشرق والمغرب قبلة"، قال أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى : ليس المراد من هذا الحديث أن كل ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة : لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك وهو بالاتفاق ليس بقبلة بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ومغرب معين قبلة ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي وبين المغرب الصيفي فإن ذلك قبلة وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والذي بينهما هو سمت مكة قالوا : فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم أما فعل / الصحابة فمن وجهين. الأول : أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس، مستدبرين للكعبة، لأن المدينة بينهما فقيل لهم : ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلّم عليهم، وسمي مسجدهم بذي القبلتين، ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل. الثاني : أن الناس من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٤


الصفحة التالية
Icon