والجواب الرابع : أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام والثاني مقرون بقوله تعالى :﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ (البقرة : ١٤٨) أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله :﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَإِنَّه لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾. والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمرالقبلة فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال : ألزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال : ألزم هذه القبلة فإنها الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله :﴿وَإِنَّه لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ ثم يقال : ألزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ (الرحمن : ١٢) وكذلك ما كرر في قوله تعالى :﴿إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةًا وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء : ١٧٤).
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٨
والجواب الخامس : أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت / الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات.
أما قوله تعالى :﴿وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة : ٧٤) يعني ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق وهم يعرفونه ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم :﴿مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ (البقرة : ١٤٢) وبأنه قد اشتاق إلى مولده ودين آبائه فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله وكشف عن وهنه وضعفه.
أما قوله :﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا الكلام يوهم حجاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجة تزول الآن باستقبال الكعبة، وفي كيفية تلك الحجة روايات. أحدها : أن اليهود قالوا : تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا. وثانيها : قالوا : ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه. وثالثها : أن العرب قالوا : إنه كان يقول : أنا على دين إبراهيم والآن ترك التوجه إلى الكعبة، ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم عليه السلام فصارت هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام، إلا أن الله تعالى لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين، لأن قولهم لا يؤثر في المصالح، وقد بينا من قبل تلك المصلحة، وهي تميز من اتبعه بمكة ممن أقام على تكذيبه، فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة، فلهذا قال الله تعالى :﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ يعني تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أنه يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى، وهو قول بعض العرب : إن محمداً عليه الصلاة والسلام عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية وكان التمسك بهذه الشبهة والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر/ وذلك ظلم على النفس على ما قال تعالى :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان : ١٣) فلا جرم قال الله تعالى :﴿إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٨
المسألة الثانية : قرأ نافع :﴿لَيْلا﴾ يترك الهمزة وكل همزة مفتوحة قبلها كسرة فإنه يقلبها ياء والباقون بالهمزة وهو الأصل.
المسألة الثالثة :(لئلا) موضعه نصب، والعامل فيه (ولوا) أي ولوا لئلا، وقال الزجاج التقدير : عرفتكم ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة.
المسألة الرابعة : قيل : الناس هم أهل الكتاب عن قتادة والربيع وقيل : هو على العموم.
المسألة الخامسة : ههنا سؤال، وهو أن شبهة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ليست بحجة، فكيف يجوز استثناؤها عن الحجة وقد اختلف الناس فيه على أقوال. الأول : أنه استثناء متصل ثم على هذا القول يمكن دفع السؤال من وجوه :