المسألة الثالثة :﴿فِى مَا﴾ في قوله :﴿كَمَآ أَرْسَلْنَا﴾ مصدرية كأنه قيل : كإرسالنا فيكم، ويحتمل أن تكون كافة.
أما قوله تعالى :﴿فِيكُمْ﴾ فالمراد به العرب وكذلك قوله :﴿مِّنكُم﴾ وفي إرساله فيهم ومنهم، نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه الشرف، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الإنقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب.
أما قوله تعالى :﴿يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِنَا﴾ فاعلم أنه من أعظم النعم لأنه معجزة باقية، ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات، ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم، ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة، فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة.
أما قوله :﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ ففيه أقوال. أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء عن الحسن. وثانيها : يزكيهم بالثناء والمدح، أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به، كما يقال : إن المزكي زكي الشاهد، أي وصفه بالزكاء. وثالثها : أن التزكية عبارة عن التنمية، كأنه قال يكثركم، كما قال :﴿إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ ﴾ (الأعراف : ٨٦) وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا، عن أبي مسلم، قال القاضي : وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك.
أما قوله تعالى :﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـابَ﴾ فليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم، وأما (الحكمة) فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه (الحكمة) هي سنة الرسول عليه السلام.
أما قوله :﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمداً بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٢
١٢٣
اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين : الذكر، والشكر، أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح، فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤا كتابه، وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع. أحدها : أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل. وثانيها : أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده، فإذا عرفوا / كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد، وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم. وثالثها : أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له، أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم، فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكراً بقوله :﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ فصار الأمر بقوله : متضمناً جميع الطاعات، فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال : اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه، أما قوله :﴿فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ﴾ فلا بد من حمله على ما يليق بالموضع، والذي له تعلق بذلك الثواب والمدح، وإظهار الرضا والإكرام، وإيجاب المنزلة، وكل ذلك داخل تحت قوله :﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ ثم للناس في هذه الآية عبارات. الأولى : اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي. الثانية : اذكروني بالإجابة والإحسان وهو بمنزلة قوله :﴿ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ (غافر : ٦٠) وهو قول أبي مسلم قال : أمر الخلق بأن يذكروه راغبين راهبين، وراجين خائفين ويخلصوا الذكر له عن الشركاء، فإذا هم ذكروه بالإخلاص في عبادته وربوبيته ذكرهم بالإحسان والرحمة والنعمة في العاجلة والآجلة. الثالثة : اذكروني بالثناء والطاعة أذكركم بالثناء والنعمة. الرابعة : اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة. الخامسة : اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات. السادسة : اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء. السابعة : اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي. الثامنة : اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي. التاسعة : اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص. العاشرة : اذكروني بالربوبية في الفاتحة أذكركم بالرحمة والعبودية في الخاتمة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٣
١٢٤


الصفحة التالية
Icon