وأما التمسك بقوله :﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فضعيف، لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور أولاً، بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئاً آخر قال الله تعالى :﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ (البقرة : ١٨٤) ثم قال :﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّه ﴾ (البقرة : ١٨٤) فأوجب عليهم / الطعام، ثم ندبهم إلى التطوع بالخير فكان المعنى : فمن تطوع وزاد على طعام مسكين كان خيراً، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوع مصروفاً إلى شيء آخر وهو من وجهين. أحدهما : أنه يزيد في الطواف فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر. الثاني : أن يتطوع بعد حج الفرض وعمرته بالحج والعمرة مرة أخرى حتى طاف بالصفا والمروة تطوعاً وأما الحديث الذي تمسكوا به فنقول : ذلك الحديث عام وحديثنا خاص والخاص مقدم على العام والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قراءة حمزة وعاصم والكسائي (يطوع) بالياء وجزم العين، وتقديره : يتطوع، إلا أن التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما، وهذا أحسن لأن المعنى على الاستقبال والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال، وإن كان يجوز أن يقال من أتاني أكرمته فيوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء، إلا أن اللفظ إذا كان يوافق المعنى كان أحسن/ وأما الباقون من القراء فقرؤا (تطوع) على وزن تفعل ماضياً وهذه القراءة تحتمل أمرين. أحدهما : أن يكون موضع (تطوع) جزماً. الثاني : أن لا يجعل (من) للجزاء، ولكن يكون بمنزلة (الذي) ويكون مبتدأ والفاء مع ما بعدها في موضع رفع لكونها خبر المبتدأ الموصول والمعنى فيه معنى مبتدأ الخبر، إلا أن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة، أفادت أن الثاني إنما وجب لوجوب الأول كقوله :﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه ﴾ (النحل : ٥٣) فما مبتدأ موصول، والفاء مع ما بعدها خبر له، ونظيره قوله :﴿وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ (النساء : ٣٨) إلى قوله :﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ (البقرة : ٢٧٤) وقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ﴾ (البروج : ١٠) إلى قوله :﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ وقوله :﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْه ﴾ وقوله :﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُه قَلِيلا﴾ وقوله :﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ وقوله :﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ ونذكر هذه المسألة إن شاء الله عند قوله :﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ (البقرة : ٢٧٤).
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٤
المسألة الثانية ؛ قال أبو مسلم :(تطوع) تفعل من الطاعة وسواء قول القائل : طاع وتطوع، كما يقال : حال وتحول وقال وتقول وطاف وتطوف وتفعل بمعنى فعل كثيراً، والطوع هو الانقياد، والطوع ما ترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك.
المسألة الثالثة : الذين قالوا : السعي واجب، فسروا هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب ومنهم من فسره بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة وقال الحسن : المراد منه جميع الطاعات وهذا أولى لأنه أوفق لعموم اللفظ.
أما قوله تعالى :﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ فاعلم أن الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه، وذلك في حق الله تعالى محال، فالشاكر في حقه تعالى مجاز، ومعناه المجازي على الطاعة : وإنما سمي المجازاة على الطاعة شكراً لوجوه. الأول : أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مبالغة في الإحسان / إليهم، كما قال تعالى :﴿مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ (البقرة : ٢٤٥) وهو تعالى لا يستقرض من عوض، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل : من ذا الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم. الثاني : أن الشكر لما كان مقابلاً للأنعام أو الجزاء عليه سمي كل ما كان جزاء شكراً على سبيل التشبيه. الثالث : كأنه يقول : أنا وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل وبالجملة فالمقصود بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات.
وأما قوله :﴿عَلِيمٌ﴾ فالمعنى أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل، وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى :﴿عَلِيمٌ﴾ تعلق بشاكر ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد، وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه، وتحذير من خلاف ذلك.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٤
١٣٩


الصفحة التالية
Icon