المسألة الثانية : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً أحدها : ما روي عن كعب أنه قال، قال موسى عليه السلام : يا رب أقريب أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك ؟
فقال : يا موسى أنا جليس من ذكرني، قال : يا رب فإنا نكون على حالة نجلك أن نذكرك عليها من جنابة وغائط، قال : يا موسى اذكرني على كل حال، فلما كان الأمر على هذه الصفة رغب الله تعالى عباده في ذكره وفي الرجوع إليه في جميع الأحوال، فأنزل الله تعالى هذه الآية وثانيها : أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه ؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها : أنه عليه السلام كان في غزوة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء، فقال عليه السلام :"إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً" ورابعها : ما روي عن قتادة وغيره أن سببه أن الصحابة قالوا : كيف ندعو ربنا يا نبي الله ؟
فأنزل هذه الآية وخامسها : قال عطاء وغيره : إنهم سألوه في أي ساعة ندعو الله ؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية وسادسها : ما ذكره ابن عباس، وهو أن يهود أهل المدينة قالوا : يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا ؟
فنزلت هذه الآية وسابعها : قال الحسن : سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فقالوا : أين ربنا ؟
فأنزل الله هذه الآية وثامنها : ما ذكرنا أن قوله :﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ (البقرة : ١٨٣) لما اقتضى تحريم الأكل بعد / النوم، ثم إنهم أكلوا ثم ندموا وتابوا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلّم أنه تعالى هل يقبل توبتنا ؟
فأنزل الله هذه الآية.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٠
واعلم أن قوله :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ يدل على أنهم سألوا النبي عليه السلام عن الله تعالى، فذلك السؤال إما أنه كان سؤالاً عن ذات الله تعالى، أو عن صفاته، أو عن أفعاله، أما السؤال عن الذات فهو أن يكون السائل ممن يجوز التشبيه/ فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات، وأما السؤال عن الصفات فهو أن يكون السائل سأل عن أنه تعالى هل يسمع دعاءنا فيكون السؤال واقعاً على كونه تعالى سميعاً، أو يكون المقصود من السؤال أنه تعالى كيف أذن في الدعاء، وهل أذن في الدعاء، وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة، وهل أذن لنا أن ندعوه كيف شئنا، أو ما أذن بأن ندعوه على وجه معين، كما قال تعالى :﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا﴾ (الإسراء : ١١٠) وأما السؤال عن الأفعال فهو أن يكون السائل سأل الله تعالى أنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا، وهل يفعله ما نسأله عنه فقوله سبحانه :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ يحتمل كل هذه الوجوه، إلا أن حمله على السؤال عن الذات أولى لوجهين الأول : أن ظاهر قوله :﴿عَنِّي﴾ يدل على أن السؤال وقع عن ذاته لا عن فعله أن السؤال متى كان مبهماً والجواب مفصلاً، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعين، فلما قال في الجواب :﴿عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات، ولقائل أيضاً أن يقول بل السؤال كان على الفعل، وهو أنه تعالى هل يجيب دعاءهم، وهل يحصل مقصود، بدليل أنه لما قال :﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ قال :﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ فهذا هو شرح هذا المقام.
أما قوله تعالى :﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه ليس المراد من هذا القريب بالجهة والمكان، بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ، فيحتاج ههنا إلى بيان مطلوبين :
المطلوب الأول : في بيان أن هذا القريب ليس قرباً بحسب المكان، ويدل عليه وجوه الأول : أنه لو كان في المكان مشاراً إليه بالحس لكان منقسماً، إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد. ولو كان منقسماً لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة وجزء الشيء غيره، فلو كان في مكان لكان مفتقراً إلى غيره، والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق، وذلك في حق الخالق القديم محال، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان والثاني : أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات، أو غير متناه عن جهة دون جهة، أو كان متناهياً من كل الجوانب والأول : محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال والثاني : محال أيضاً / لهذا الوجه، ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهياً والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه، فيلزم منه كونه تعالى مركباً من أجزاء مختلفة الطبائع والخصم لا يقول بذلك.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٠