المسألة الثانية : قال أبو سليمان الخطابي : الدعاء مصدر من قولك : دعوت الشيء أدعوه دعاء ثم أقاموا المصدر مقام الاسم تقول : سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتاً وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم : رجل عدل. وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة. وأقول : اختلف الناس في الدعاء، فقال بعض الجهال الدعاء شيء عديم الفائدة، واحتجوا عليه من وجوه أحدها : أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا حاجة أيضاً إلى الدعاء وثانيها : أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته، وإلا لزم إما التسلسل، وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب إنتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم/ فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان واجب الوقوع، وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان ممتنع الوقوع، ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء ألبتة أثر، وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا : الأقدار سابقة والأقضية متقدمة والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئاً منها، فأي فائدة في الدعاء، وقال عليه الصلاة والسلام قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق بكذا وكذا عاماً وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :"جف القلم بما هو كائن" وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :"أربع قد فرغ منها : العمر والرزق والخلق والخلق" وثالثها : أنه سبحانه علام الغيوب :﴿يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ﴾ (غافر : ١٩)فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء ؟
ولهذا السبب قالوا إن جبريل عليه / السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك ورابعها : أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه وخامسها : ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالإلتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر وسادسها : أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب وسابعها : روي أنه عليه الصلاة والسلام قال رواية عن الله سبحانه وتعالى :"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٠
وقال الجمهور الأعظم من العقلاء : إن الدعاء أهم مقامات العبودية، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل، أما الدلائل النقلية فكثيرة الأول : أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية، أما الأصولية فقوله :﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ﴾ (الإسراء : ٨٥) ﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾ (طه : ١٠٥) ﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ (النازعات : ٤٢) وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي ﴿يَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ﴾ (البقرة : ٢١٩) ﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ (البقرة : ٢١٧) ﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾ (البقرة : ٢١٩) ﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى ﴾ (البقرة : ٢٢٠) ﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾ (البقرة : ٢٢٢) وقال أيضاً :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ﴾ (الأنفال : ١) ﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ﴾ (الكهف : ٨٣) ﴿وَيَسْتَنابِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ (يونس : ٥٣) ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَـالَةِ ﴾ (النساء : ١٧٦).
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٠