المسألة الخامسة : قال الشافعي رضي الله عنه : لا تقدير لزمان الإعتكاف فلو نذر اعتكاف / ساعة ينعقد ولو نذر أن يعتكف مطلقاً يخرج عن نذره باعتكافه ساعة، كما لو نذر أن يتصدق مطلقاً تصدق بما شاء من قليل أو كثير، ثم قال الشافعي رضي الله عنه : وأحب أن يعتكف يوماً وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه لا يجوز اعتكاف أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر، ويخرج بعد غروب الشمس، وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه ليس تقدير الإعتكاف بمقدار معين من الزمان أولى من بعض، فوجب ترك التقدير والرجوع إلى أقل ما لا بد منه، وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الإعتكاف هو حبس النفس عليه، وذلك لا يحصل في اللحظة الواحدة، ولأن على هذا التقدير لا يتميز المعتكف عمن ينتظر الصلاة.
أما قوله تعالى :﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿تِلْكَ﴾ لا يجوز أن يكون إشارة إلى حكم الإعتكاف لأن الحدود جمع ولم يذكر الله تعالى في الإعتكاف إلا حداً واحداً، وهو تحريم المباشرة بل هو إشارة إلى كل ما تقدم في أول آية الصوم إلى ههنا على ما سبق شرح مسائلها على التفصيل.
المسألة الثانية : قال الليث : حد الشيء مقطعه ومنتهاه قال الأزهري : ومنه يقال للمحروم محدود لأنه ممنوع عن الرزق ويقال للبواب : حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحد الدار ما يمنع غيرها من الدخول فيها، وحدود الله ما يمنع من مخالفتها والمتكلمون يسمون الكلام الجامع المانع : حداً، وسمي الحديد : حديداً لما فيه من المنع، وكذلك إحداد المرأة لأنها تمنع من الزينة إذا عرفت الإشتقاق فنقول : المراد من حدود الله محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٧
أما قوله تعالى :﴿فَلا تَقْرَبُوهَا ﴾ ففيه إشكالان الأول : أن قوله تعالى :﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إشارة إلى كل ما تقدم، والأمور المتقدمة بعضها إباحة وبعضها حظر فكيف قال في الكل ﴿فَلا تَقْرَبُوهَا ﴾ والثاني : أنه تعالى قال في آية أخرى :﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ﴾ (البقرة : ٢٢٩) وقال في آية المواريث ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيَتَعَدَّ حُدُودَه ﴾ (تلك وقال ههنا :﴿فَلا تَقْرَبُوهَا ﴾ فكيف الجمع بينهما ؟
والجواب عن السؤالين من وجوه : الأول : وهو الأحسن والأقوى أن من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الضلال، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل، لئلا يداني الباطل وأن يكون بعيداً عن الطرف فضلاً أن يتخطاه كما قال عليه الصلاة والسلام :"إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني : لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله :﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ (الإسراء : ٣٤) الثالث : أن الأحكام المذكورة فيما قبل وإن كانت كثيرة إلا أن أقربها إلى هذه الآية إنما هو قوله :/ ﴿وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ ﴾ وقبل هذه الآية قوله :﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ﴾ وذلك يوجب حرمة الأكل والشرب في النهار، وقبل هذه الآية قوله :﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ وهو يقتضي تحريم مواقعة غير الزوجة والمملوكة وتحريم مواقعتهما في غير المأتي وتحريم مواقعتهما في الحيض والنفاس والعدة والردة، وليس فيه إلا إباحة الشرب والأكل والوقاع في الليل، فلما كانت الأحكام المتقدمة أكثرها تحريمات، لا جرم غلب جانب التحريم فقال :﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ﴾ أي تلك الأشياء التي منعتم عنها إنما منعتم عنها بمنع الله ونهيه عنها فلا تقربوها.
أما قوله تعالى :﴿كَذاَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَـاتِه لِلنَّاسِ﴾ ففيه وجوه أحدها : المراد أنه كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه في هذا الموضع، كذلك يبين سائر أدلته على دينه وشرعه وثانيها : قال أبو مسلم : المراد بالآيات الفرائض التي بينها كما قال :﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَـاهَا وَفَرَضْنَـاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَـاتا بَيِّنَـاتٍ﴾ (النور : ١) ثم فسر الآيات بقوله :﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى﴾ (النور : ٢) إلى سائر ما بينه من أحكام الزنا، فكأنه تعالى قال : كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما لزم وثالثها : يحتمل أن يكون المراد أنه سبحانه لما بين أحكام الصوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً سافياً وافياً، قال بعده :﴿كَذاَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَـاتِه لِلنَّاسِ﴾ أي مثل هذا البيان الوافي الواضح الكامل هو الذي يذكر للناس/ والغرض منه تعظيم حال البيان وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان.
أما قوله تعالى :﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ فقد مر شرحه غير مرة.
الحكم الثامن