أما قوله تعالى :﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ ففيه وجوه أحدها : وهو منقول عن ابن عباس : أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى، وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج، وفيه الفتنة، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل/ لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم، والقتل ليس كذلك، والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة، والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل، وروي في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام، فالمؤمنون عابوه على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكان المعنى ليس لكم أن تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك وثانيها : أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش، ثم صار إسماً لكل ما كان سبباً للامتحان تشبيهاً بهذا الأصل، والمعنى : أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين، وعلى تشديد الأمر عليهم بحيث صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والوطن هرباً من إضلالهم في الدين، وتخليصاً للنفس مما يخافون ويحذرون، فتنة شديدة بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخليص من غموم الدنيا وآفاتها، وقال بعض الحكماء : ما أشد من هذا القتل الذي أوجبه عليكم جزاء غير تلك الفتنة.
الوجه الثالث : أن يكون المراد من الفتة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، / فكأنه قيل : اقتلوهم من حيث ثقفتموهم، واعلم أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه كقوله :﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِه ﴾ (التوبة : ٥٢) وإطلاق اسم الفتنة على العذاب جائز، وذلك من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، قال تعالى :﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ (الذاريات : ١٣) ثم قال عقيبة :﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ (الذاريات : ١٤) أي عذابكم، وقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ﴾ (البروج : ١٠) أي عذبوهم، وقال :﴿فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ (العنكبوت : ١٠) أي عذابهم كعذابه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٨
الوجه الرابع : أن يكون المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام، أشد من قتلكم إياهم في الحرم، لأنهم يسعون في المنع من العبودية والطاعة التي ما خلقت الجن والإنس إلا لها.
الوجه الخامس : أن ارتداد المؤمن أشد عليه من أن يقتل محقاً والمعنى : وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم وأسهل عليكم من أن ترتدوا عن دينكم أو تتكاسلوا في طاعة ربكم.
أما قوله :﴿وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيه ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا بيان لبقاء هذا الشرط في قتالهم في هذه البقعة خاصة، وقد كان من قبل شرطاً في كل القتال وفي الأشهر الحرم.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي :﴿وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيه فَإِن قَـاتَلُوكُمْ﴾ كله بغير ألف، والباقون جميع ذلك بالألف، وهو في المصحف بغير ألف، وإنما كتبت كذلك للإيجاز، كما كتب : الرحمن بغير ألف، وكذلك : صالح، وما أشبه ذلك من حروف المد واللين، قال القاضي رحمه الله : القراءتان المشهورتان إذا لم يتناف العمل وجب العمل بهما، كما يعمل بالآيتين إذا لم يتناف العمل بهما، وما يقتضيه هاتان القراءتان المشهورتان لا تنافي فيه، فيجب العمل بهما ما لم يقع النسخ فيه، يروى أن الأعمش قال لحمزة : أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولاً فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره ؟
فقال حمزة : إن العرب إذا قتل رجل منهم قالوا قتلنا، وإذا ضرب رجل منهم قالوا ضربنا.
المسألة الثالثة : الحنفية تمسكوا بهذه الآية في مسألة الملتجيء إلى الحرم، وقالوا : لما لم يجز القتل عند المسجد الحرام بسبب جناية الكفر فلأن لا يجوز القتل في المسجد الحرام بسبب الذنب الذي هو دون الكفر كان أولى/ وتمام الكلام فيه في كتب الخلاف.
أما قوله تعالى :﴿فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فاعلم أنه تعالى أوجب عليهم القتال على ما تقدم ذكره، وكان يجوز أن يقدر أن ذلك القتال لا يزال وإن انتهوا وتابوا كما ثبت في كثير من الحدود أن التوبة لا تزيله، فقال تعالى بعدما أوجب القتل عليهم :﴿فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بين بهذا أنهم متى انتهوا عن ذلك سقط وجوب القتل عنهم، ونظيره قوله تعالى :﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ (الأنفال : ٣٨) وفي الآية مسائل :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٨
المسألة الأولى : قال ابن عباس : فإن انتهوا عن القتال وقال الحسن : فإن انتهوا عن الشرك.


الصفحة التالية
Icon