الحجة الأولى : قوله تعالى :﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ وجه الاستدلال به أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملاً تاماً، ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه، وإذا ثبت الإحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك، أما بيان الإحتمال فيدل عليه قوله تعالى :﴿وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ (البقرة : ١٢٤) أي فعلهن على سبيل التمام والكمال، وقوله تعالى :﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ﴾ (البقرة : ١٨٧) أي فافعلوا الصيام تاماً إلى الليل، وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال : المراد فأشرعوا في الصيام ثم أتموه، لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار، وعلى التقدير الذي ذكرناه لا يحتاج إليه فثبت أن قوله :﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه، أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضاً أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه، إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى، ويدل عليه وجوه الأول : أن / حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطاً، ويكون التقدير : أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما، وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط، فكان ذلك أولى والثاني : أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه الثالث : قرأ بعضهم ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد لكنه بالإتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل الرابع : أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة، ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما، والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب، فكان الذي نصرناه أكبر فائدة، فكان حمل كلام الله عليه أولى الخامس : أن الباب باب العبادة فكان الإحتياط فيه أولى، والقول بإيجاب الحج والعمرة معاً أقرب إلى الاحتياط، فوجب حمل اللفظ عليه السادس : هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام، لكنا نقول : اللفظ دل على وجوب الاتمام جزماً، وظاهر الأمر للوجوب فكان الإتمام واجباً جزماً والاتمام مسبوق بالشروع، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب، فيلزم أن يكون الشروع واجباً في الحج وفي العمرة السابع : روي عن ابن عباس أنه قال : والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله، أي إن العمرة لقرينة الحج في الأمر في كتاب الله يعني في هذه الآية فكان كقوله :﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزَّكَواةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (البقرة : ٤٣) فهذا تمام تقرير هذه الحجة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٣
فإن قيل : قرأ علي وابن مسعود والشعبي ﴿وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ بالرفع وهذا يدل على أنهم قصدوا إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب.
قلنا : هذا مدفوع من وجوه الأول : أن هذه قراءة شاذة فلا تعارض القراءة المتواترة، الثاني : أن فيها ضعفاً في العربية، لأنها تقتضي عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية الثالث : أن قوله :﴿وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ معناه أن العمرة عبادة الله، ومجرد كونها عبادة الله لا ينافي وجوبها/ وإلا وقع التعارض بين مدلول القراءتين، وهو غير جائز الرابع : أنه لما كان قوله :﴿وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ معناه : والعمرة عبادة الله، وجب أن يكون العمرة مأموراً بها لقوله تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ (البينه : ٥) والأمر للوجوب، وحينئذ يحصل المقصود.
الحجة الثانية : في وجوب العمرة أن قوله تعالى :﴿يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ﴾ (التوبة : ٣) يدل على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل، وما ذاك إلا العمرة بالإتفاق، وإذا ثبت أن العمرة حج، وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى :﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾ ولقوله :﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ (آل عمران : ٩٧)}.