والجواب : من وجوه أحدها : أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن وثانيها : لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الأحاديث، ثم نزل بعدها قوله :﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ وهذا هو الأقرب، لأن هذه الآية إنما نزلت في السنة السابعة من الهجرة وثالثها : أن قصة الأعرابي مشتملة على ذكر الحج وليس فيها بيان تفصيل الحج، وقد بينا أن العمرة حج لأنها هي الحج الأصغر، فلا تكون هي منافية لوجوب العمرة، وأما حديث محمد بن المنكدر فقالوا : رواية حجاج بن أرطاة وهو ضعيف.
المسألة الثالثة : اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام : الإفراد، والقران، والتمتع، فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل، أو يعتمر قبل أشهر الحج، ثم يحج في تلك السنة، / والقران أن يحرم بالحج والعمرة معاً في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم قبل الطواف أدخل عليها الحج يصير قرانا، والتمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ثم يحج في هذه السنة، وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل عن العمرة قبل أن يحرم بالحج.
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في الأفضل من هذه الثلاثة فقال الشافعي رضي الله عنه أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران وقال في اختلاف الحديث التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : القران أفضل، ثم الإفراد، ثم التمتع، وهو قول المزني وأبي إسحق والمروزي من أصحابنا، وقال أبو يوسف ومحمد : القران أفضل، ثم التمتع، ثم الإفراد، حجة الشافعي رضي الله عنه في أن الإفراد أفضل من وجوه الأول : التمسك بقوله تعالى :﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ والإستدلال به من ثلاثة أوجه الأول : أن الآية اقتضت عطف العمرة على الحج، والعطف يستدعي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه/ والمغايرة لا تحصل إلا عند الإفراد، فأما عند القران فالموجود شيء واحد، وهو حج وعمرة وذلك مانع من صحة العطف الثاني : قوله :﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ يقتضي الافراد، بدليل أنه تعالى قال :﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ﴾ والقارن يلزمه هديان عند الحصر، وأيضاً أنه تعالى أوجب على الخلق عند الأداء فدية واحدة، والقارن يلزمه فديتان عند الحصر الثالث : هذه الآية تدل على وجوب الإتمام، والإتمام لا يحصل إلا عند الإفراد ويدل عليه وجهان الأول : أن السفر مقصود في الحج، بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من وطنه، ولولا أن السفر مقصود في الحج لكان يحج عنه من أدنى المواقيت، ويدل عليه أيضاً أنهم قالوا لو نذر أن يحج ماشيا وحج راكباً يلزمه دم، فثبت أن السفر مقصود والقران يقتضي تقليل السفر، لأن بسببه يصير السفران سفراً واحداً، فثبت أن الاتمام لا يحصل إلا بالافراد الثاني : أن الحج لا معنى له إلا زيارة بقاع مكرمة، ومشاهد مشرفة، والحاج زائر الله، والله تعالى مزوره، ولا شك أنه كلما كانت الزيارة والخدمة أكثر كان موقعها عند المخدوم أعظم، وعند القران تنقلب الزيارتان زيارة واحدة، بل الحق أن جملة أنواع الطاعات في الحج وفي العمرة تكرر عند الافراد، وتصير واحدة عند القران، فثبت أن الافراد أقرب إلى التمام، فكان الافراد إن لم يكن واجباً عليكم بحكم هذه الآية فلا أقل من كونه أفضل.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٣
الحجة الثانية : في بيان أن الافراد أفضل : أن الافراد يقتضي كونه آتيا بالحج مرة، ثم بالعمرة بعد ذلك، فتكون الأعمال الشاقة في الأفراد أكثر فوجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام :"أفضل الأعمال أحمزها" أي أشقها.


الصفحة التالية
Icon