الحجة الثالثة : أنه عليه السلام كان مفرداً فوجب أن يكون الإفراد أفضل، أما قولنا : إنه كان مفرداً فاعلم أن الصحابة اختلفت رواياتهم في هذا المعنى، فروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم أفرد بالحج، وروى جابر وابن عمر أنه أفرد، وأما أنس فقد روى عنه أنه قال : كنت واقفاً عند جران ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكان لعابها يسيل على كتفي، فسمعته يقول "لبيك بحج وعمرة معاً" ثم الشافعي رضي الله عنه رجح رواية عائشة رضي الله عنها وجابر وابن عمر على رواية أنس من وجوه أحدها : بحال الرواة، أما عائشة فلأنها كانت عالمة، ومع علمها كانت أشد الناس التصاقاً برسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأشد الناس وقوفاً على أحواله، وأما جابر فانه كان أقدم صحبة للرسول صلى الله عليه وسلّم من أنس، وإن أنساً كان صغيراً في ذلك الوقت قبل العلم، وأما ابن عمر فإنه كان مع فقهه أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غيره، لأن أخته حفصة كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلّم والثاني : أن عدم القران متأكد بالاستصحاب والثالث : أن الافراد يقتضي تكثير العبادة، والقران يقتضي تقليلها، فكان إلحاق الإفراد بالنبي عليه الصلاة والسلام أولى، وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان مفرداً وجب أن يكون الافراد أفضل لأنه عليه الصلاة والسلام كان يختار الأفضل لنفسه، ولأنه قال :"خذوا عني مناسككم" أي تعلموا مني.
الحجة الرابعة : أن الافراد يقتضي تكثير العبادة، والقران يقتضي تقليلها، فكان الأول أولى، لأن المقصود من خلق الجن والإنس هو العبادة، وكل ما كان أفضى إلى تكثير العبادة كان أفضل، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه :
الحجة الأولى : التمسك بقوله تعالى :﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ وهذا اللفظ يحتمل أن يكون المراد أيجاب كل واحد منهما/ أو يكون المراد منه إيجاب الجمع بينهما على سبيل التمام، فلو جملناه على الأول لا يفيد الثاني، ولو حملناه على الثاني أفاد الأول، فكان الثاني أكثر فائدة، فوجب حمل اللفظ عليه، لأن الأولى حمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٣
الحجة الثانية : أن القران جمع بين النسكين فوجب أن يكون أفضل من الإتيان بنسك واحد.
الحجة الثالثة : أن في القران مسارعة إلى التسكين وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد التسكين فوجب أن يكون القران أفضل لقوله :﴿وَسَارِعُوا ﴾ (آل عمران : ١٣٣).
والجواب عن الأول : أنا بينا أن هذه الآية تدل من ثلاثة أوجه دلالة ما هو أكثر فائدة على الإفراد، وأما ما ذكرتموه فمجرد حسن ظن حيث قلتم : حمل اللفظ على ما هو أكثر فائدة أولى وإذا كان كذلك كان الترجيح لقولنا.
والجواب عن الثاني والثالث : أن كل ما يفعله القارن يفعله المفرد أيضاً، إلا أن القران كان / حيلة في إسقاط الطاعة فينتهي الأمر فيه أن يكون مرخصاً فيه فأما أن يكون أفضل فلا، وبالجملة فالشافعي رضي الله عنه لا يقول إن الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة لكنه يقول : من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها فمجموع هذين الأمرين أفضل من الاتيان بالحجة المقرونة.


الصفحة التالية
Icon