المسألة الثالثة : هذه الآية دالة على أنه لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٣
٢٩٦
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة، قال كعب : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلّم زمن الحديبية، وكان في شعر رأسي كثير من القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام تؤذيك هوام رأسك ؟
قلت : نعم يا رسول الله، قال أحلق رأسك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمقصود منها أن المحرم إذا تأذى بالمرض أو بهوام رأسه أبيح له المداواة والحلق بشرط الفدية والله أعلم.
المسألة الثانية : ففدية رفع لأنه مبتدأ خبره محذوف، والتقدير : فعليه فدية، وأيضاً ففيه إضمار آخر والتقدير : فحلق فعليه فدية.
المسألة الثالثة : قال بعضهم : هذه الآية مختصة بالمحصر، وذلك لأن قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله أذن له في ذلك بشرط بذل الفدية، وقال آخرون بل الكلام مستأنف لكل محرم لحقه المرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو لحقه أذى في رأسه فاحتاج إلى الحلق، فبين الله تعالى أن له ذلك، وبين ما يجب عليه من الفدية.
إذا عرفت هذا فنقول : المرض قد يحوج إلى اللباس، فتكون الرخصة في اللباس كالرخصة في الحلق، وقد يكون ذلك بغير المرض من شدة البرد وما شاكله فأبيح له بشرط الفدية، وقد يحتاج أيضاً إلى استعمال الطيب في كثير من الأمراض فيكون الحكم فيه ذاك، وأما من يكون به أذى / من رأسه فقد يكون ذلك بسبب القمل والصئبان وقد يكون بسبب الصداع وقد يكون عند الخوف من حدوث مرض أو ألم، وبالجملة فهذا الحكم عام في جميع محظورات الحج.
المسألة الرابعة : اختلفوا في أنه هل يقدم الفدية ثم يترخص أو يؤخر الفدية عن الترخص والذي يقتضيه الظاهر أنه يؤخر الفدية عن الترخص لأن الإقدام على الترخص كالعلة في وجوب الفدية فكان مقدماً عليه، وأيضاً فقد بينا أن تقدير الآية : فحلق فعليه فدية، ولا ينتظم الكلام إلا على هذا الحد، فإذن يجب تأخير الفدية.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٦
أما قوله تعالى :﴿مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ فالمراد أن تلك الفدية أحد هذه الأمور الثلاثة وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أصل النسك العبادة، قال ابن الأعرابي النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة، ثم قيل للمتعبد : ناسك لأنه خلق نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث، هذا أصل معنى النسك، ثم قيل للذبيحة : نسك من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله.
المسألة الثانية : اتفقوا في النسك على أن أقله شاة، لأن النسك لا يتأدى إلا بأحد الأمور الثلاثة : الجمل، والبقرة، والشاة، ولما كان أقلها الشاة، لا جرم كان أقل الواجب في النسك هو الشاة، أما الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما، وبماذا يحصل بيانه فيه قولان أحدهما : أنه حصل عن كعب بن عجرة، وهو ما روى أبو داود في سننه أنه عليه الصلاة والسلام لما مر بكعب بن عجرة ورأى كثرة الهوام في رأسه/ قال له : احلق ثم اذبح شاة نسكاً أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين.
والقول الثاني : ما يروى عن ابن عباس والحسن أنهما قالا : الصيام للمتمتع عشرة أيام، والإطعام مثل ذلك في العدة، وحجتهما أن الصيام والإطعام لما كانا مجملين في هذا الموضع وجب حملهما على المفسر فيما جاء بعد ذلك، وهو الذي يلزم المتمتع إذا لم يجد الهدي، والقول الأول عليه أكثر الفقهاء.
المسألة الثالثة : الآية دلت على حكم من أقدم على شيء من محظورات الحج بعذر، أم من حلق رأسه عامداً بغير عذر فعند الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة الواجب عليه الدم، وقال مالك رضي الله عنه : حكمه حكم من فعل ذلك بعذر، والآية حجة عليه، لأن قوله :﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِه أَذًى مِّن رَّأْسِه فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ﴾ يدل على اشتراط هذا الحكم بهذه الأعذار، والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرط، وقوله تعالى :﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ فاعلم أن تقديره : فإذا أمنتم من الإحصار، وقوله :﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ فيه مسائل :