أما قوله تعالى :﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ فقد طعن الملحدون لعنهم الله فيه من وجهين أحدهما : أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة فذكره يكون إيضاحاً للواضح والثاني : أن قوله :﴿كَامِلَةٌ ﴾ يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة وذلك محال، والعلماء ذكروا أنواعاً من الفوائد في هذا الكلام الأول : أن الواو في قوله :﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله :﴿مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ ﴾ (النساء : ٣) وكما في قولهم : جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا، فالله تعالى ذكر قوله :﴿عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ إزالة لهذا الوهم النوع الثاني : أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدل كما في التيمم مع الماء فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك، بل هو كامل في كونه قائماً مقام المبدل ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله، وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله :﴿كَامِلَةٌ ﴾ كأنه لو قال : تلك كاملة، جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة، أو السبعة المفردة عن الثلاثة، فلا بد في هذا من ذكر العشرة، ثم اعلم أن قوله :﴿كَامِلَةٌ ﴾ يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه أحدها : أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه وثانيها : أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه وثالثها : أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملاً، مثل حج من لم يأت بهذا التمتع.
النوع الثالث : أن الله تعالى إذا قال : أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام، لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ، فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف، فلو قال : ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، بقي احتمال أن يكون مخصوصاً بحسب بعض الدلائل المخصصة، فإذا قال بعده : تلك عشرة كاملة فهذا يكون تنصيصاً على أن هذا المخصص لم يوجد ألبتة، فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٦
النوع الرابع : أن مراتب الأعداد أربعة : آحاد، وعشرات، ومئين، وألوف، وما وراء ذلك فأما أن يكون مركباً أو مكسوراً، وكون العشرة عدداً موصوفاً بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف، فصار تقدير الكلام : إنما أوجبت هذا العدد لكونه عدداً موصوفاً بصفة الكمال خالياً عن الكسر والتركيب.
النوع الخامس : أن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب، كقوله :﴿وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ﴾ (الحج : ٤٦) وقال :﴿وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ويعرف بالصفات الكثيرة، أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة، فالتعبير بالعبادات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملاً على مصالح كثيرة ولا يجوز الإخلال بها، أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها، وإذا كان التوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها ألبتة.
النوع السادس : في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب، ولم يكونوا أهل حساب، فبين الله تعالى ذلك بياناً قاطعاً للشك والريب، وهذا كما روي أنه قال في الشهر : هكذا وهكذا وأشار بيديه ثلاثاً، وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبهاً بالإشارة الأولى على ثلاثين، وبالثانية على تسعة وعشرين.
النوع السابع : أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط، وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط، فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه.
النوع الثامن : أن قوله :﴿فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام، على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة، حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين، فإذا قال بعده تلك عشة كاملة زال هذا الإشكال، وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة.