الحجة الثانية : أن أيام النحر يفعل فيها بعض ما يتصل بالحج، وهو رمي الجمار والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيام بعد العشر، ومذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر والجواب عن الأول : من وجهين أحدهما : أن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، بدليل قوله :﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ (التحريم : ٤) والثاني : أنه نزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال : رأيتك سنة كذا إنما رآه في ساعة منها والجواب عن الثاني : أن رمي الجمار يفعله الإنسان وقد حج بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج، والحائض إذا طافت بعده فكأنه في حكم القضاء لا في حكم الأداء، وأما الذين قالوا إن عشرة أيام من أول ذي الحجة هي من أشهر الحج، فقد تمسكوا فيه بوجهين الأول : أن من المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر والثاني : أن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج، وهو طواف الزيارة، وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه احتج على قوله بأن الحج يفوت بطلوع الفجر يوم النحر، والعبادة لا تكون فائته مع بقاء وقتها، فهذا تقرير هذه المذاهب.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٤
بقي ههنا إشكالان الأول : أنه تعالى قال من قبل :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ (البقرة : ١٨٩) فجعل كل الأهلة مواقيت للحج الثاني : أنه اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا : من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله، ومن بعد داره البعد الشديد لا يجوز أن يحرم من دويرة أهله بالحج إلا قبل أشهر الحج، وهذا يدل على أن أشهر الحج غير مقيدة بزمان مخصوص والجواب من الأول : أن تلك الآية عامة، وهذه الآية وهي قوله :﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ ﴾ خاصة والخاص مقدم على العام وعن الثاني : أن النص لا يعارضه الأثر المروي عن الصحابة.
المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿مَّعْلُومَـاتٌ ﴾ فيه وجوه أحدها : أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها، ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مراراً، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع وعلى هذا القول فالشرع لم يأت على خلاف ما عرفوا وإنما جاء مقرراً له الثاني : أن المراد بها معلومات ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام الثالث : المراد بها أنها مؤقتة في أوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها، لا كما يفعله الذين نزل فيهم ﴿إِنَّمَا النَّسِى ءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ ﴾ (التوبة : ٣٧).
المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي الله عنه : لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج، / وبه قال أحمد وإسحاق، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة رضي الله عنهم : لا يجوز في جميع السنة حجة الشافعي رضي الله عنه قوله :﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ ﴾ وأشهر جمع تقليل على سبيل التنكير، فلا يتناول الكل، وإنما أكثره إلى عشرة وأدناه ثلاثة وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى، فثبت أن المراد أن أشهر الحج ثلاثة، والمفسرون اتفقوا على أن تلك الثلاثة : شوال، وذو القعدة، وبعض من ذي الحجة، وإذا ثبت هذا فنقول : وجب أن لا يجوز الإحرام بالحج قبل الوقت، ويدل عليه ثلاثة أوجه الأول : أن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياساً على الصلاة الثاني : أن الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت، لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر، حكما فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى الثالث : أن الإحرام لا يبقى صحيحاً لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء فلأن لا ينعقد صحيحاً لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان الأول : قوله تعالى :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ (الحج : ١٨٩) فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج، وهي ليست بمواقيت للحج فثبت إذن أنها مواقيت لصحة الإحرام، ويجوز أن يسمى الإحرام حجا مجازاً كما سمي الوقت حجاً في قوله :﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ ﴾ بل هذا أولى لأن الإحرام إلى الحج أقرب من الوقت.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٤
والحجة الثانية : أن الإحرام التزام للحج، فجاز تقديمه على الوقت كالنذر.
والجواب عن الأول : أن الآية التي ذكرناها أخص من الآية التي تمسكتم بها.
والجواب عن الثاني : أن الفرق بين النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر للأداء والاتصال للنذر بالاداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ وأما الإحرام فإنه مع كونه التزاماً فهو أيضاً شروع في الأداء وعقد عليه، فلا جرم افتقر إلى الوقت.
وقوله تعالى :﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ فيه مسألتان :