القول الثاني : في اشتقاق عرفة أنه من الإعتراف لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والإستغناء ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة ويقال : إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا، فقال الله سبحانه وتعالى الآن عرفتما أنفسكما.
والقول الثالث : أنه من العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى :﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ (محمد : ٦) أي طيبها لهم، ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب، ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة، قال عليه الصلاة والسلام :"خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك" الثاني : يوم إياس الكفار من دين الإسلام الثالث : يوم إكمال الدين الرابع : يوم إتمام النعمة الخامس : يوم الرضوان، وقد جمع الله تعالى هذه الأشياء في أربع آيات، في قوله :﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ﴾ (المائدة : ٣) الآية، قال عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية عرفة، وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلّم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام، وذلك في حجة الوداع، وقد اضمحل الكفر، وهدم بنيان الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام :"لو يعلم الناس ما لهم في هذه الآية لقرت أعينهم" فقال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين، كان يوم عرفة ويوم الجمعة فأما معنى : إياس المشركين : فهو أنهم يئسوا من قوم محمد عليه الصلاة والسلام أن يرتدوا راجعين إلى دينهم، فأما معنى إكمال الدين فهو أنه تعالى ما أمرهم بعد ذلك بشيء من الشرائع، وأما إتمام النعمة فأعظم النعم نعمة الدين، لأن بها يستحق الفوز بالجنة والخلاص من النار، وقد تمت في ذلك اليوم وكذلك قال في آية الوضوء ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة : ٦) ولما جاء البشير وقدم / على يعقوب، قال : على أي دين تركت يوسف ؟
قال : على دين الإسلام قال : الآن تمت النعمة، وأما معنى الرضوان فهو أنه تعالى رضي بدينهم الذي تمسكوا به وهو الإسلام فهي بشارة بشرهم بها في ذلك اليوم فلا يوم أكمل من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين، وقيل : هذا اليوم يوم صلة الواصلين ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ (المائدة : ٣) ويوم قطيعة القاطعين ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه ﴾ (التوبة : ٣) ويوم إقالة عثر النادمين وقبول توبة التائبين ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ (الأعراف : ٢٣) فكما تاب برحمته على آدم فيه فكذلك يتوب على أولاده ﴿وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه ﴾ (الشورى : ٢٥) وهو أيضاً يوم وفد الوافدين ﴿وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا﴾ (الحج : ٢٧) وفي الخبر "الحاج وفد الله، والحاج زوار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٢
وأما الأسماء الخمسة الأخرى ليوم عرفة فأحدها : يوم الحج الأكبر قال الله تعالى :﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ﴾ (التوبة : ٣) وهذا الاسم مشترك بين عرفة والنحر، واختلف الصدر الأول من الصحابة والتابعين فيه/ فمنهم من قال : إنه عرفة، وسمي بذلك لأنه يحصل فيه الوقوف بعرفات والحج عرفة إذا لو أدركه وفاته سائر مناسك الحج أجزأ عنها الدم، فلهذا السبب سمي بالحج الأكبر قال الحسن : سمي به لأنه اجتمع فيه الكفار والمسلمون، ونودي فيه أن لا يحج بعده مشرك، وقال ابن سيرين : إنما سمي به لأنه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلها من اليهود والنصارى وحج المسلمون ولم يجتمع قبله ولا بعده، ومنهم من قال : إنه يوم النحر لأنه يقع فيه أكثر مناسك الحج، فأما الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزىء في الليل وروى القولان جميعاً عن علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وثانيها : الشفع وثالثها : الوتر ورابعها : الشاهد وخامسها : المشهود في قوله :﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ (البروج : ٣) وهذه الأسماء فسرناها في هذه الآية.
واعلم أنه تعالى خص يوم عرفة من بين سائر أيام الحج بفضائل، منها أنه تعالى خص صومه بكثرة الثواب قال عليه الصلاة والسلام :"صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين" وعن أنس كان يقال في أيام العشر : كل يوم بألف ويوم عرفة بعشرة آلاف بل يستحب للحاج الواقف بعرفات أن يفطر حتى يكون وقت الدعاء قوي القلب حاضر النفس.


الصفحة التالية
Icon